المقاومة واستنزاف العدو اقتصادياً
ساد في الواقع العربي والفلسطيني، على مدى سنوات الصراع العربي ـ الصهيوني، منطق يقلل من أهمية أثر الخسائر التي يتكبدها كيان العدو الإسرائيلي جراء الانتفاضات والمقاومة المسلّحة ضد الاحتلال، إن على مستوى الاقتصاد الإسرائيلي، أو على مستوى معيشة الإسرائيليين، أو على مستوى القرار السياسي، حتى أن أصحاب هذا الرأي بلغ بهم الأمر إلى حد القول إن لا جدوى من الرهان على استنزاف كيان العدو، عبر المقاومة المسلّحة، لأن إسرائيل لن تتأثر بذلك، لكونها تستند إلى دعم الولايات المتحدة، والدول الغربية التي تعوضها عن كل خسائرها، وتوفر لها الإمكانات للبقاء في وضع قوي عسكرياً واقتصادياً، وهذا الرأي كان ينطلق، أيضاً، من عدم إيمانه بقدرات المقاومة على تحقيق النصر، لتبرير سلوك خيار الدبلوماسية، بديلاً عن خيار المقاومة.
والمتابع لمجريات وتداعيات الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة على مدى 51 يوماً، يتبين له أن المقاومة أثبتت، بالقول والفعل، قدرة عالية على التصدي للعدوان، والرد عليه بقصف مواقع الاحتلال ومدنه، ومستوطناته على كامل مساحة فلسطين المحتلة، في حين عجز طيران العدو ومدفعيته، على الرغم من كثافة النيران التي أطلقها عن وقف صواريخ المقاومة من الانطلاق.
وقد تمكن هذا الفعل المقاوم من شل حركة الاقتصاد الإسرائيلي في المناطق الغربية من قطاع غزة، وإرباك الحركة والحياة في باقي المناطق، ما أدى إلى جعل الإسرائيليين يلازمون الملاجئ، وتعطيل حركة الإنتاج بشكل كلي أو جزئي. وتوقفت حركة الملاحة في مطار بن غورين، أول مرّة، منذ نشأة الكيان الصهيوني في فلسطين، حيث اضطرت شركات عالمية إلى وقف رحلاتها. ورأينا توقفاً تاماً لنشاط السياحة الصيفية، حيث توقف السياح عن المجيء إلى فلسطين المحتلة، فيما سارع السياح الموجودون في فلسطين المحتلة إلى المغادرة. واستخدم جيش الاحتلال في قصف غزة كمية كبيرة من الصواريخ وقذائف المدفعية إلى درجة أن بعضها نفذ واضطر إلى الاستعانة بالمخزون الأميركي منها.
وكان من نتيجة ذلك أن تكبدت إسرائيل خسائر اقتصادية وعسكرية، قدرت، حسب التقديرات الإسرائيلية، بين 6 ـ 7 مليارات دولار، ما أدى إلى رفع العجز في الموازنة السنوية الإسرائيلية، من 6.3 مليار دولار قبل بدء العدوان، إلى نحو 6 مليارات دولار بعد العدوان، ما يؤشر إلى زيادة بنحو 40%، وهو رقم كبير لا يستهان به، دفع وزير الحرب، موشيه يعلون، إلى القول إنه لا توجد حروب رخيصة".
وقد أظهر استطلاع أجرته دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية أن قلقاً بالغاً يساور معظم الإسرائيليين حيال مستقبلهم الاقتصادي، وتبين أن اثنين من بين كل ثلاثة أشخاص، شملهم الاستطلاع، قلقون من عدم تمكنهم توفير المال للمستقبل، ومن عدم العيش بحياة كريمه.
كما أن عدم ظهور أثر فعل المقاومة في استنزاف اقتصاد العدو في مراحل الصراع السابقة، كان سببه الوضع الاقتصادي القوي للولايات المتحدة والدول الغربية التي كانت تسارع إلى تعويض إسرائيل عن كل ما تتعرض له من خسائر، وتوفر لها كل الإمكانات التي تتيح توفير حياة الرفاهية للمستوطنين والإغراء لليهود في الخارج للهجرة إلى فلسطين المحتلة، أما اليوم فإن ظهور هذا العامل إلى السطح وتأثر المستوى السياسي الإسرائيلي به يأتي نتيجة تراجع القدرات المالية لأميركا والدول الغربية، بعد تفجر الأزمة الاقتصادية والمالية في الغرب ووقوع أميركا ودول غربية عديدة تحت عبء الديون المرهقة، واضطرارها إلى اتخاد إجراءات تقشفية قاسية، وتراجع مستويات المعيشة لدى سكانها، ما جعلها أقل قدرة على تعويض إسرائيل عن خسائرها في الحرب.
أي مبالغ تدفعها لإسرائيل باتت تفاقم من أزمة الديْن، وتثير انتقادات داخلية، ولهذا، لم تعد أميركا تشجع إسرائيل على شن الحروب، خصوصاً وأنها باتت تقاتل أعداءها بالوساطة، واليوم، فإن طلعات الطيران الأميركي فوق العراق وقصف داعش يجري تمويلها من دول الخليج، وليس من الخزانة الأميركية.
انطلاقاً مما تقدم، نخلص إلى إن أحد أهم عناصر قوة أي مقاومة ضد الاحتلال تكمن في قدرتها على استنزافه، ليس فقط بشرياً، وإنما أيضا اقتصادياً ومادياً، حيث يشكل هذا العامل عنصراً مهما في مفاقمة أزمة كيان العدو، واستطراداً في تسعير التناقضات داخل صفوفه، وتوليد عملية ضغط داخلية على المستوى السياسي، وبالتالي، ليس صحيحاً القول إن العامل الاقتصادي غير مؤثر، بل يلعب دوراً مهماً، في إضعاف قدرات العدو يقوّض من تماسك جبهته الداخلية، ويضعف من صمودها، كما لمسنا في الحرب أخيراً.
إضافة إلى إنه بقدر ما تملك المقاومة المزيد من الإمكانيات العسكرية، القادرة على إلحاق أذى أكبر بالعدو، وتكبيده خسائر كبيرة، بقدر ما يؤدي ذلك إلى زيادة حجم تأثيرها على الداخل الإسرائيلي، وإفقاده الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وهما من عوامل أساسية مؤثرة على القرار السياسي.
وقد أصبح تأثير العامل الاقتصادي في المعركة، اليوم، على كيان العدو أكبر من أي مرحلة سابقة، نتيجة تراجع قدرات الدول الغربية، وفي مقدمها أميركا، انطلاقاً من أن إسرائيل كيان استعماري، يعتمد، في قوته، على الدعم الأميركي الغربي، وعندما تضعف قدراته الاقتصادية، ويعجز عن تغطية نفقات حروبه الباهظة الثمن سوف تبدأ في تقويض عناصر قوته، المبنية أساسا على الدعم الغربي.