آفاق النظام الاقتصادي العالمي
على ضوء التحولات الاقتصادية الدولية الجديدة، يثار، في هذه الأيام، سؤال كبير عن مصير النظام الاقتصادي والمالي الدولي، المعمول به منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، والذي كرس هيمنة الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية الحليفة لها على القرار الاقتصادي والمالي العالمي.
ولقد جسد البنك وصندوق النقد الدولي الصيغة المثلى لهذه الهيمنة والسيطرة الأميركية الغربية، والنابعة، أصلاً، من أن أميركا خرجت من الحرب العالمية الثانية أقوى دولة اقتصادية في العالم، وحصتها من الناتج العالمي تجاوزت الخمسين في المائة، ما أتاح لها القدرة على فرض هيمنتها على المؤسسات الدولية الاقتصادية والمالية، واستطراداً فرض التبعية الاقتصادية والسياسية على دول كثيرة في العالم الثالث.
وقد استندت الولايات المتحدة إلى هذه القوة الاقتصادية، لتصبح أقوى دولة عسكرية، وإذا كان الاتحاد السوفييتي قد شكل المنافس لها على الصعيد الدولي، فإن ذلك انطلق من قوته العسكرية والنووية، وليس انطلاقاً من القوة الاقتصادية، ومن أنه يتبنى الاشتراكية التي تشكل النقيض للأيديولوجية الرأسمالية.
وظلت الولايات المتحدة والدول الغربية مهيمنة على الأسواق العالمية عقوداً عديدة، نتيجة تفوقها في التكنولوجيا واحتكارها لها في المجالات كافة، والمحرومة منها دول العالم الأخرى. وعدم وجود منافسين اقتصاديين أقوياء لها على الصعيد العالمي. إلى جانب قدراتها العسكرية والنووية الكبيرة التي مكنتها من فرض سلطانها على الدول التي كانت تجنح نحو التحرر من قيود التبعية لها، بالإضافة إلى امتلاكها أجهزة استخباراتية متطورة، تغلغلت في العالم، مكنتها من حياكة المؤامرات ضد أي نظام تقدمي جديد في قارات أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، بتنظيم الانقلابات، بالتعاون مع القوى الموالية لأميركا والغرب. وقدرتها في التأثير على الرأي العام العالمي، من خلال إدارتها منظومة إعلامية كبرى، وسيطرتها على معظم وسائل الإعلام العالمية التي تلعب الدور الرئيسي في صياغة الرأي العام وتوجيهه. ولا يجب نسيان سيطرتها على صناعة السينما (هوليوود)، وبالتالي، إنتاج الأفلام العالمية التي تشيع الأفكار والقيم الرأسمالية، وتظهرها على أنها النموذج الذي يحقق الازدهار وطموحات الشعوب للتقدم، والعمل على تشويه الاشتراكية وقيم العدالة الاجتماعية النقيضه للرأسمالية واعتبارها عقبة أمام التطور وحرية الإنسان.
وقد أدى ذلك كله إلى إحداث خلل كبير في العالم. برز في التفاوت في التطور بين الشمال الغني والجنوب الفقير. فالدول الغربية الرأسمالية، وفي مقدمتها أميركا، بنت تطورها وحضارتها ورفاهيتها على حساب شعوب العالم الأخرى، التي ظلت ترزح تحت نير التخلف والفقر والحرمان نتيجة تحولها إلى مجرد أسواق مستهلكة للمنتجات الغربية، وتعرض ثرواتها لعملية نهب منظمة مستمرة من قبل الشركات الغربية الرأسمالية.
أما الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية الأخرى الحليفة له، فقد كانت عرضة لحملة غربية على كل المستويات، من أجل تقويض استقرارها، وتدمير نموذجها "الاشتراكي" المناقض للنموذج الرأسمالي. وفي هذا السياق، عمدت الولايات المتحدة إلى استنزاف قدرات الاتحاد السوفييتي، عبر سباق التسلح، لمنعه من توظيف إمكاناته في حقل التنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي، وقد نجحت في ذلك، مستفيدة من انحراف النظام السوفييتي عن النهج الاشتراكي الذي يقوم على تحفيز المجتمع على النمو، من خلال التحسين المستمر في مستويات المعيشة والحياة الإنسانية، فجرى إهمال ذلك، وسادت، بدلاً منه، البيروقراطية وسيطرة الدولة على الاقتصاد، بدلا من سيطرة المنتجين على وسائل الإنتاج. وانعكس ذلك سلبا على ارتباط الناس بالنظام الاشتراكي، وساد ميل عام إلى التخلص منه، والاتجاه نحو نموذج الحياة الغربية.
وقد جاء تورط الاتحاد السوفييتي في حرب استنزاف في أفغانستان، خاضتها ضده الولايات المتحدة بالوساطة، ليشكل القشة التي قسمت ظهر البعير. فانهار الاتحاد السوفييتي وانهارت معه منظومة وأنظمة دول أوروبا الشرقية، لتفتح الآفاق العالمية أمام سيطرة شبه تامة للنموذج الرأسمالي، بنسخته الجديدة الليبرالية الجديدة التي اجتاحت معظم دول العالم، تحت عنوان أنها البديل الأفضل للشعوب، غير أنه سرعان ما تكشف لدى شعوب العالم، بشاعة هذا النموذج الليبرالي القائم على امتصاص الثروة وإفقار المجتمعات، وتهميش اقتصادياتها وتحرير أسواقها تحت عنوان الإصلاح والشفافية.
وإذا كانت حرب أميركا في أفغانستان والعراق قد استهدفت سد المنافذ على الصين وروسيا، ومنعهما من احتلال موقع دولي منافس للغرب، بالسيطرة على موارد الطاقة العالمية ومحاصرة روسيا والصين، بالسيطرة على أفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى، ومحاولة تفكيك الاتحاد الروسي، بدءاً من تشجيع حركة انفصال الشيشان، إلا أن فشل حروب أميركا والغرب سرّع في انفجار الأزمة الاقتصادية والمالية في الولايات المتحدة، ومن ثم في الدول الأوروبية الحليفة لها، نتيجة الأعباء الثقيلة لهذه الحروب، والديون الكبيرة التي باتت ترزح تحت وطأتها، وأرهقت اقتصادياتها ومجتمعاتها.
وهكذا، بات من الواضح أن انفجار الأزمة أضعف من قدرة وهيبة أميركا والغرب على الصعيد الدولي، وهو ما استفادت منه روسيا والصين ودول كثيرة، متضررة من هيمنة الولايات المتحدة. ولهذا، بدأت تظهر إلى العلن تكتلات ودعوات دولية إلى إحداث تعديلات على النظام الاقتصادي الدولي، ليكون نظاما أكثر عدلاً قائماً على الشراكة والتعددية والتعاون.