المجتمع المدني ومعارك الهيمنة مع السلطة

25 مايو 2014
+ الخط -
في خضم الحديث عن علوم الخطاب (باعتبارها علوم الوقت الأكثر قدرة على التفسير)، نجد أطروحات عديدة، تناولت واحدة من المقولات المؤسسة والسائدة، وهي "المعرفة قوّة". فبالإضافة إلى ميشيل فوكو الذي أسهب في شرح مفهومه عن الخطاب، والمفاهيم المؤسسة له، نجد من قبله أنطونيو غرامشي، والذي عمد إلى شرح أدوات السيطرة على ما أسماه الحسّ العام/الخطاب، معتبراً أنّ للمثقف دوراً فاعلاً في ذلك. ثمّ، وفي عملٍ موسوعي، يطرح مؤلفو "قاموس التنمية" رؤيتهم في السيطرة على الخطاب العالمي، من خلال مفهوم "التنمية" المراوغ الذي طرحه  الرئيس الأميركي، ترومان، كأداة مكرسة لسيطرة دول الشمال، متمثلة في النموذج الأميركي، باعتباره الأمثل والأوحد.
دور المثقف عند غرامشي، أو قاموس مفاهيم التنمية في تناول مؤلفي "قاموس التنمية"، طرحان قائمان على شرح آليات السيطرة على المجال العام، من خلال فهم طبيعة العلاقة بين ذلك واستلاب أحد أهم مكونات المجال العام، وهو المجتمع المدني.
إنهما يتناولان آليات السيطرة بمفهومها الناعم، باعتبارها الأكثر فعالية في العصر الحديث، بل الأكثر مناسبة، أيضاً، لشكل الخطاب الحديث الذي يؤثر فيه بالضرورة الظرف التاريخي. لذلك، هم لا يتحدثون عن استعمار عسكري، أو قوة خشنة، إنما عن معرفة ووعي وثقافة وعلم. إنّهم يتحدّثون عن احتكار المجال المعرفي، بتجلياته، باعتباره سبيلاً نحو السلطة.

المجتمع المدني والسلطة:
السيطرة على المجتمع المدني تعبير أحد أهم سبل تكريس السلطة، وتقويتها، بل حائط الدفاع الأقوى ضد التحركات الثورية ضد السلطة (التحركات الرافضة الخطاب السائد)، حيث تعمد السلطة على هلهلة المجتمع المدني وخلخلته، ليصبح غير ذي تأثير أو فعالية، ما يؤدي إلى تضخم في المجال السياسي، على حساب المجالات المجتمعية الأخرى، يضمن بقاء السلطة، وسيطرتها بإيجاد حالة من التكلس والركود السياسي. 
هنا، تظهر العلاقة الجدلية بين الحراكين، السياسي والمجتمعي، فحالة الركود السياسية  استراتيجية تستهدف تدمير المجتمع المدني، بسلب أفراده حقوقهم السياسية/حقوق المواطنة، والتي تتطلب بالضرورة إيجاد حالة من عدم الاستقرار، فيما يخص الحقوق الاجتماعية، وقد تصل إلى التطاول على الحقوق الإنسانية، كالتطاول على حرمة الجسد، وهو الحال الذي تمثله الأنظمة الأمنية القمعية.
العلاقة الجدلية بين الحراكين السياسي والمجتمعي تشرح أدوات السيطرة على المجال العام، فالسلطة، ومن خلال إيجاد الاضطراب في المجتمع المدني، بسلبه حقوقه بمستوياتها المختلفة، تفتح المجال لوضع اليد على المجال السياسي، والسيطرة الكلية عليه، ثمّ إماتته إكلينيكيّاً، وهو ما يتطلب بالضرورة حزمة من القرارات القمعية، لكنه أيضاً يتطلب ما يعطي لهذه السلطة الشرعية، من خلال تكريس مفاهيم مؤسسة لخطاب تهيمن السلطة على مفاصله، ويبتلعه الأفراد. لذلك، لابد من المثقّف الذي يمثّل ازدواجيّة تعامل الدولة مع المجتمع المدني، وهي الازدواجية التي تكرّس للسلطة، فالمثقّف يعطي الشرعية للسلطة لدى المجتمع المدني، وهو أيضاً، كما تموضعه الدولة، نتاج هذا المجتمع المدني. إنّها، مرة أخرى، إعادة تعريف لمقولة “المعرفة باعتبارها قوّة”، فسيطرة الدولة على المعرفة تتمثل في المثقف الرسمي الذي يمثل بوق الدولة، وهو أيضاً محتكر المعرفة كمثقف.
لحظة الوعي.. ودور المعرفة:
تتمثّل لحظة الوعي في الخروج من براثن الخطاب السائد الذي تسعى السلطة حثيثاً إلى السيطرة عليه، وتكريسه. وفي حديثنا عن العلاقة الجدلية بين الحراكين، السياسي والمجتمعي،  أشرنا إلى دور المثقف/النخبة في تلك العلاقة، ما يعني، إذن، موقع المعرفة في هذه العلاقة، فأينما كانت المعرفة فثمّة القوّة/السلطة.
وفي اعتقادي أنّ لحظة الوعي، تلك اللحظة الثورية على الخطاب السائد، محاولة لإعادة توزيع موازين القوى بين السياسي والمجتمعي، فعَوْدٌ إلى العلاقة الجدلية بين الحراكين، السياسي والمجتمعي، وموقع المعرفة في العلاقة، فيمكننا، إذن، أن نعيد تعريف لحظة الوعي بأنّها اللحظة التي يقرر فيها الأفراد إعادة رسم خريطة توزيع الهيمنة، فهي اللحظة التي تبدأ فيها حالة الصراع بين المُسيطِر والمُسَيطَر عليه، على المجالات الاجتماعية المختلفة، والتي تمثل الهيمنة على أي مجال فيها زيادة في السيطرة على المعرفة، أي زيادة في السلطان، وهي أيضاً إعادة تحديد لمراكز القوى.
إدراك هذا النموذج لهذه العلاقة، بكل أطرافها ومستوياتها، سيؤدي بلحظة الوعي إلى تحرّك يستهدف الأفراد فيه إعادة الاعتبار للمجتمع المدني، وتقويته، وتقليص المجال السياسي في مقابل المجالات الأخرى التي يجب أن تكون أكثر فعالية، وممارسة، وتأثيراً في النهاية على المجال السياسي.
المقصود هنا هو أن تعود سلطة المعرفة إلى المجتمع المدني، ويعود ترتيب المجتمع المدني، وتنظيمه إليه، بعملية تدوير حيوية تحدث داخله، تفرز مثقفيه/نخبته العضوية المعبّرة عنه، ويؤدي هذا الحراك الحيوي في المجتمع المدني إلى إعادة إيجاد مجال سياسي، يعبّر عن المجتمع المدني، وهذا هو المقصود تحديداً بإعادة تحديد مراكز القوى؛ المعرفة للمجتمع، والمجتمع متعدد المكونات والمجالات، بما فيها السياسي، والذي يصبح إذ ذاك انعكاساً للمجتمعي، وتعبيراً عنه، وفي خدمته، والله أعلم.