المجاهد والشهيد والقتيل

23 أكتوبر 2015
+ الخط -
ليس كل ما نرغبه يصلح ليكون نموذجاً يحتذى، فأحياناً تكون رغباتنا غطاءً لحزن أو طموح وحلم مستحيل. لطالما تكثف الجدل في الحروب بشأن مفردات تصف ضحايا الحرب أو الصدامات مع العدو، مثل الشهيد والقتيل والمجاهد وارتقاء الشهيد والعمليات الانتحارية والاستشهادية.
يعترض فلسطينيون كثيرون، خصوصاً على استخدام وصف القتيل، بدلاً من الشهيد، وهو وصف تلجأ إليه محطات تلفزية عربية وصحافيون وكتاب، ويعتبرون أن وصف القتيل لمن يُقتل برصاص الاحتلال يقلل من شأن المقتول وقضيته، وهم يرغبون في إطلاق وصف الشهيد على ضحية العدوان الإسرائيلي. والباحث في أصول مفردة شهيد يجد أن استخدامها الأول كان في بدايات المسيحية، حيث استخدم الوصف لأتباع المسيح الذين فتك بهم الرومان، ولم تذكر اليهودية مثل هذا الوصف البتّة في التوراة، أو في التعاليم اليهودية، كما أنه لم يأت ذكر الشهيد في القرآن الكريم، بمعنى الذين يقتلون في سبيل الله سوى مرة واحدة "ومن يطع الله والرسول، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا".
تكررت كلمة الشهيد في القرآن الكريم 55 مرة، والتي جاءت بمعاني الشاهد والحجة والحاضر والواعي؛ كما جاء في الآية الكريمة "كذلك جعلناكم أمة وسطاً، لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً"، بمعنى الحجة والدليل. وفي الآية "وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة، قال قد أنعم الله عليّ، إذ لم أكن معهم شهيداً"، بمعنى الحاضر. وفي الآية القائلة "قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم من عنده علم الكتاب"، واستخدمت بمعنى الشخص الذي يكون بكل شيء عليماً. والآية القائلة "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة، وأولوا العلم قائماً بالقسط".
وحتى تلك الآية المتكررة في الخطاب السياسي الفلسطيني اليساري واليميني، "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون"، تؤكد على صفة القتيل في سبيل الله، ولم تقل الشهيد. ولم يأت في القرآن ذكر القتيل في سبيل الوطن، فلا وطن في الإسلام، وانما هناك دولة الخلافة الإسلامية التي تترامى حدودها، لتشمل أوطاناً لشعوب عديدة متناثرة في المعمورة. وترتبط بهذا المعنى مفردة جديدة مستقاة من الثقافة الإسلامية، حتى إن منظمات ماركسية فلسطينية، مثل الجبهتين الشعبية والديمقراطية، لا تنسيانها في بيانات النعي لأفرداهما الذين يسقطون في المواجهات مع العدو الصهيوني، هي "ارتقاء"، حيث تخرج البيانات لتقول "ارتقى الرفيق الشهيد" فلان. والارتقاء يأخذ من الدين منهلاً وجذراً، هو الصعود والسمو من الأرضي إلى السماوي، من قيمة دنيا إلى قيمةٍ أعلى وأرقى مقاماً، فإذا كان الكفاح من أجل وطن حر ومتحرّر وعادل في الدنيا لشعب مظلوم، فالحياة هي أعلى قيمة من الموت، إلاّ إذا كان هؤلاء اليساريون لا يقيمون وزناً للحياة الدنيا، ويطمحون، مثل الأصوليين، إلى حالة أرقى في الآخرة، حيث الوطن لجميع الملل والنحل.
زد على ذلك أن كلمة المجاهد، المسيحية أصلاً، حلّت محل كلمة الفدائي من أجل الحرية والتحرير في الخطاب السياسي الفلسطيني الراهن. وانسحب تعبير العمليات الفدائية الانتحارية الذي ساد في السبعينات، ليحل مكانه تعبير العمليات الاستشهادية التي جاء به الإسلاميون وتبناه اليساريون. ليس كل هذا تقليلاً من شأن أولئك الشبان الذين يضحون بأرواحهم وأحلامهم وأعمارهم من أجل فلسطين، فهذا شأن عظيم في حياتنا يؤلم، ويجعلنا نفخر به، ونحلم بأن لا تذهب دماؤهم هدراً، ونحن نرى التلف الفكري، وتراجع الخطاب المرافق للدم الفائض.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.