المثقف بين الزيف والالتزام

21 يناير 2016
تحوَّل الكذب إلى وسيلة مشروعة للمعركة الأيديولوجية (Getty)
+ الخط -
يسعى المفكر والأكاديمي الفرنسي باسكال بونيفاس في كتابه المثير للجدل "المثقفون المزيفون، النصر الإعلامي لخبراء الكذب" الصادر عن منشورات ورد للطباعة والنشر (ترجمة روز مخلوف)، إلى فضح الآلة الإعلامية ودورها في تضليل الجمهور، والمثقف هنا، يبدو غارقاً في صناعة الكذب، بل لا يتورع عن اللجوء إلى الحجج الخادعة من أجل حصد التأييد، في هذا الكتاب، ثمة نقد للأخلاق، لكونها مبنية على الخداع، ونقد للغرب، لأنَّه يزيد من اتساع الهوَّة بينه وبينَ الآخر المختلف معه في الهوية والثقافة والأنا.


"من يدفع ثمن الموسيقى يختار المعزوفة"، ومن يريد قلب الحقائق يؤجج المزاعم ويفتعل النزاعات، القضية إذن، بحسب بونيفاس جدل فكري حول الهيمنة وآليات تحقيق ذلك، بما تعنيه الهيمنة من إخضاع وتبعية، إن انعدام الضمير هو الباعث على إنتاج الكذب الحقيقي، والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: لماذا لا يتم فضح المزيف؟ سؤال كهذا تتفرع منه أسئلة عديدة، يُحاول هذا الكتاب على امتداد 178 صفحة الإجابة عنها في ضوء غياب النزاهة الفكرية التي كانت دوماً معياراً للفضيلة وسمو الأخلاق، لا يُمكن الحديث عن مؤامرة "صدام الحضارات"، التي تبنى أطروحاتها صموئيل هنتنغتون، كل ما هناك الترويج لنوع من الإيديولوجية الأحادية التي لفرض الأمر الواقع، وتبرير بعض التجاوزات.

"المثقفون المزيفون" كتاب رفضته أربع عشرة داراً من كبريات دور النشر الفرنسية، هو دحض للمواقف والمواقف المضادة، مثلاً لا يمكن تبرير الحرب على العراق، بأنها من أجل إحلال الديمقراطية، طبعاً، هذه مبررات واهية يسوقها الغرب المهيمن لتبرير ذلك، ثم الديمقراطية تأتي بالحوار والإنصات للآخر رغم اختلافنا معه، فالاختلاف لا يفسد للود قضية. ما يرومه باسكال بونيفاس هو المساهمة في إغناء النقاش بعيداً عن الزيف والكذب والبهتان، بيد أن أمر الصدق أو الكذب لا يمثل كل الشرائح الاجتماعية، هي أسئلة محيِّرة، ما نكتبه وما نفكر فيه هو الأصح دون نية في الصدق أو الكذب، ما يعنيه بونيفاس من هذا كله، السياق العام لاحتمالية الصدق أو الكذب، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالآخر، وهذا هو جوهر المشكل الذي تسعى الطبقة المثقفة إلى تأبيده والترويج له على نحو خاطئ، دعونا نفكر مليا في تسلط المثقف، حين دخل في ميثاق مع الأهواء السياسية، فالمجد الحقيقي الذي بلغه كبار المثقفين الفرنسيين من أمثال فولتير، ديدرو، شاتوبريان وغيرهم، كان نتاج موقف سياسي، في تاريخ هذا الموقف على وجه التحديد، المسألة في اعتقاد باسكال بونيفاس، تعود بالدرجة الأساس إلى التزام المثقف بقضايا المجتمع والحياة.

يخلص بول نيزان إلى أن "المفكر الذي لا يطابق بين فكره والعمل التَّحرري، يجعل صداقته المعلنة للبشر عقيمة"، هو الصمت المطبق أو "خيانة المثقفين"، حين تنتفي سمة الالتزام بالمفهوم السارتري للأدب والأدبية، لكن هل مطلوب من الكاتب أو المثقف بصفة عامة الالتزام في طرح القضايا ونقد ما يخالفها؟ بالنسبة لبونيفاس الأمر محسوم لفائدة وضع موهبة المثقف في خدمة القضايا الكبرى، والخروج عن الصمت في نقد المجتمع والسلطة القائمة.

إن مفهوم النخبة المثقفة وما تطرحه من زيف مقابل الالتزام، من انكفاء على الذات مقابل انصهارها مع الذوات الأخرى، لم يعد مقبولا للمثقف بعد تنامي الكراهية والخرق المتزايد للمواثيق الدولية، وتوسع الهوة بين الشمال والجنوب، وانعدام التكافؤ والمساواة، وتوسيع دائرة المعارف بفضل العولمة ووسائل الاتصال، لم يعد مقبولا في ضوء هذه التحولات، أن يظل المثقف في منأى عن إشكاليات عصره، وأن يمكث في برجه العاجي محاطاً بانعدام الضمير والأخلاق.

الالتزام في الرؤية لا يعني نوعاً من المضايقة الفكرية، بل هو دفاع عن الحقيقة والشرعية في إنتاج الفكرة، كيف لمثقف يحضرُ يوميا في وسائل الإعلام أن ينتج فكرا حقيقيا؟ حضور لا يقتل، فقط يساهم في تدجين الرؤية وتقزيم فكرة الالتزام، مع ضرورة الإشارة إلى كون البرامج الثقافية تكون مدتها قصيرة، وبالتالي فالإجابة عن الأسئلة الأكثر تداولاً، تبدو غير ذات نفع، مع العلم أن وسائل الإعلام تغرس قاعدة بيانات في الأذهان، سؤال مثل: هل الإسلام دين عدائي أم لا؟ لا يمكننا الإجابة عنه في ثلاثين ثانية، الأمر أشبه بالنكتة، مع أننا نقضي وقتاً أطول في قاعة التجميل، هناك في الحقيقة تفاعل ديالكتيكي بين الرأي العام ووسائل الإعلام، قاعدة الاحتمال في جذب أكبر عدد من المشاهدين في وقت ضيق وقصير، والجمهور على استعداد لقبول الخبر مهما كان صادقاً أو كاذباً.

يؤكد باسكال بونيفاس عبر فصول الكتاب على تحول الكذب إلى وسيلة مشروعة للمعركة الأيديولوجية، وفي تصوره، إذا كانت هناك عدالة إنسانية كما نزعم، لماذا إذن نحن في حاجة إلى الكذب؟ الغاية هنا لا تبرر الوسيلة، بل فقط نزيد الطين بلةً، وتضاعف من صناعة الزيف وخلق الفتن بين الشعوب، لعلَّ هذا الكتاب فكرة لفضح المثقفين المزيفين، وأهل النخبة الذين تصنعهم محافل الإعلام، في النهاية، لا يطول الزيف مهما بدا مستوطنا في العديد من المثقفين، وحده الالتزام بالقضايا الجوهرية للإنسان والمجتمع والوجود، هو الكفيل بضمان حريات أكثر في التعبير عن الرأي والرأي المخالف بدون خوف أو زيف.

للإشارة، فقد شغل باسكال بونيفاس منصب رئيس معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس، حاصل على دكتوراه في القانون الدولي العام من معهد باريس، وهو أحد المحللين الاستراتيجيين الفرنسيين، من أهم إصداراته: (فهم العالم، 2010)، (لماذا كل هذه الكراهية، 2010)، (حروب المستقبل،2001)، (هل لا تزال فرنسا قوة عظمى، 1998)، (من يجرؤ على نقد إسرائيل، 2004)، وقد تعرض لحملة شرسة سواء داخل فرنسا أو خارجها بسبب مواقفه وآرائه المدافعة عن الأقليات.

(المغرب)
دلالات
المساهمون