الكذب المباح

06 ابريل 2016
+ الخط -

صادف يوم الجمعة الماضي الأول من إبريل، فقرّرت أن أخرج عن إحدى القواعد التي وضعها المجتمع الغزي المغلق للمرأة، فالجو كان بديعاً بسماء صافيةٍ، والأغصان تتمايل بخفة مراهقةٍ، طربت أذناها لغزلٍ عفيفٍ من ابن الجيران الذي يقف على ناصية الحارة كالعادة، فانتعلتُ حذاءً رياضياً، وخرجتُ في وقت مبكر جداً لمزاولة رياضة المشي في الحي الهادئ الذي أقطنه. ومن الأمور الغريبة أن تخرج امرأةٌ تسكن في حي شعبي، وبالزي الشرعي الذي تفرضه عليها البيئة المحيطة، لكي تمارس رياضة المشي وحيدةً، وفي وقت مبكر. وهكذا مشيت خطواتي الأولى، ومررت بحذرٍ من أمام باب بيت جارتي الأرملة، والتي تستيقظ مع "صراصير الصبح"، وكنت أريد أن أهرب من سؤالها اللزج: "وين رايحة"، لكنها ضبطتني متلبسةً بخروج باكر على غير العادة، وقد اعتادت خروجي باكراً منذ سنوات، وأنا أحمل أحد أطفالي على كتفي، أهرع به إلى أقرب طبيب.

وجدت أن الشرح عن السبب الحقيقي سوف يجعلني مادة للسخرية، وسأصبح حديثها أياماً، فماذا لو أخبرتها أنه لا يجدر بنا البقاء بين جدران بيوتنا، محملين بالشحنات السالبة بين سماع الأخبار وصك اللايكات وسطر التعليقات على "فيسبوك"، فآثرت أن أرد عليها رداً مختصراً، أني اكتشفت نفاد الخبز في بيتي، وعليّ أن أشتريه من أقرب مخبز، قبل استيقاظ أولادي.

على ناصية الشارع، اخترقتني نظراتُ باعة الفلافل الصغار في المطعم الذي يطعم كل أهل الحي، فقراء وأغنياء، أطباق الفول والحمص وأقراص الفلافل الشهية، وهم يراقبون المارة أكثر مما يهتمون بعملهم. تناهت إلى سمعي نكتة أحدهم عن مختطف الطائرة المصرية، وقد مررت مرات من أمامهم في أثناء تريّضي، ما حدا أحدهم إلى سؤالي عن سبب "هذه الحركات"، فكذبتُ ثانيةً، وادعيت أنني أبحث عن قطعةٍ نقديةٍ كبيرة أوقعتها، وهكذا اتخذت طريقي إلى بيتي، في المرة الأخيرة، ولمحت الباعة الصغار يتركون عملهم، ويمشطون آثار خطواتي بأعينهم، بحثاً عن الـ "عشرة شواقل"؟

في طريق العودة، ضبطتني جارتي كلص متلبس، ونظرت إلى يدي الخاوية، وسألتني عن كيس الخبز، وسألتني عن عدم ارتدائي حذائي ذا الكعب المرتفع قليلاً. وسألتني عن سبب خروجي بلا حقيبة يد ضحمة كالعادة. ثلاثة أسئلة تشبه أسئلة المحققين في الأفلام المصرية، حين تنطلق من وكيل النيابة مثل طلقات رصاص، فيرتبك المتهم، ما يمنح وكيل النيابة سبباً وجيهاً لاتهامه، وتلفيق التهمة له غالباً، لكني قرّرت أن أشن هجوماً مباغتاً عليها، فسألتها عن عدوتها اللدود، وهي جارة أخرى، تعيش في رغد من العيش مع خمسٍ من زوجات أبنائها، في بناية من عدة طوابق، بعكسها هي التي تسجن كل واحدة من زوجات أبنائها الأربعة في غرفةٍ من القرميد، وكنت أعرف أنها تنقم على غرورها وتعاليها. وهكذا، بمجرد أن سألتها عنها تناست أسئلتها، وشخصت ببصرها إلى السماء، طلباً لإنصافها، فانسللت إلى بيتي.

في البيت، كان شجارٌ مبكرٌ قد احتدم بين ابنتيَّ، لأن كل واحدة كانت تشجع طفلاً صغيراً لم يتجاوز العام، حيث أعلنت شركة ملابس في غزة عن مسابقةٍ لاختيار أجمل طفل، ومنحه مائة شيقل إسرائيلي (25 دولاراً)، وهدف الشركة هو ترويج مبيعاتها التي انخفضت بسبب الحصار، في صفحتها على "فيسبوك". وهكذا تعالى صراخ البنتين، تشجيعاً لأمجد وعمرو، وسألتني الصغرى: أنتِ مين شايفة أحلى؟ ولم أعثر على جوابٍ يرضيها، لأني لم أكتشف أي الطفلين تشجع، لكن ابنتي الكبرى سبقتني بالقول: أمجد طبعاً، فعرفت أن ابنتي الصغرى تشجع عمرو، فكذبت الكذبة الثالثة، وأنا لم أر أي منهما: "الاثنين حلوين".

سرحتُ إلى أيام زمان، عندما كانت جدّاتنا يُلبسن الولد ملابس البنات، ويربطن شعره، ويضعن الحلق في أذنه، ويخفونه عن أعين الجارات، فلا يرينه إلا حين يركض في الأزقة بلعابٍ يسيل، ومخاط متجمد.

دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.