كانت لنا في العدد الماضي وقفة مع محترفات الكتابة للتلاميذ وأهميتها في تحرير اللغة من النّحو وقواعده، لكن رحيل فاطمة المرنيسي جعلني أتذكّر تجربة "ورشات الكتابة من أجل الديمقراطية" التي كانت تشرف عليها وتعتبرها مجالا حيويا لإشاعة روح المبادرة وقيم الديمقراطية.
كنت أسمع عن هذه التجربة، فبعض ثمراتها صدرت في كتب، فيما كانت تصلني عبر أصدقاء أخبار مشاريع عديدة تشتغل عليها فاطمة ورفاقها داخل هذه الورشات. أمّيات يكتبن حياتهن.
المعتقلون السياسيون الذين غادروا السجون التحقوا بورش فاطمة المرنيسي ليحاولوا استعادة الحياة التي بدّدوها خلف القضبان عبر الكتابة، وكانت الحصيلة عناوين من قبيل: "حديث العتمة" لفاطنة البيه، "سرقنا ضحكًا" لعزيز الوديع، و"رقّة الصخر" لعبد اللطيف ازريكم. معتقلون آخرون كتبوا ينصفون أمهاتهم. أمهات مغربيات بسيطات، أميات في غالبيتهن، أخرجتهن محنة الأبناء المحتجزين من بيوتهن ليتوزّعن على مخافر الشرطة والمحاكم والسجون لطرق الأبواب من أجل إطلاق سراح فلذات أكبادهن قبل أن يجدن أنفسهن في صلب النضال الحقوقي الوطني. ضحايا للتحرش الجنسي يكسرن الصمت لأول مرة. ضحايا الاغتصاب.
كانت الورشات تشجّع المواطنين على الكتابة في مواضيع حساسة لا يتعرّض لها الكتّاب "المحترفون". وفاطمة المرنيسي تبشِّر بالكتابة وتدعو إليها وتقترحها على المغاربة أداة تعبير وتطهير ومقاومة. كان المعنيون بالأمر يكتبون مباشرة وبكامل حريتهم، ليبقى إشراف فاطمة المرنيسي حِرَفيا بالأساس، لا يصادر منهم آراءهم الخاصة ولا يمارس الرقابة على شهاداتهم. لكن، ماذا ستفعل فاطمة في مدينة صغيرة مهملة في أقصى الجنوب الشرقي اسمها زاكَورة؟
كانت نخبة من شباب المدينة العائدين من كليات مراكش وأكَادير بشهادات جامعية، لم تمكّنهم من الحصول على وظائف، يتحلّقون حول فاطمة. وفيما كان البعض يحاولون البحث عن فرصهم في مشاريع صغيرة محليّة، سيكبر بعضها بعد سنوات من الكفاح، ظلّت الغالبية معتصمة داخل الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطّلين. كانت زاكَورة تغلي تلك الأيام. وجاءت فاطمة إلى المدينة المشتعلة لتحرّر طاقاتها المعطّلة، لتخاطب هؤلاء الشباب وتدعوهم إلى الكتابة. كانت تشرح للشباب بنبرتها الحازمة أن الجميع يجب أن يكتب. الكل بدون استثناء.
حدّدت للورشة هدفها الأوّلي. كانت تعرف كيف تنطق باسم الشباب الحاضر، وتهجس بما في ضمائرهم: "نحن أبناء زاكَورة يهمّنا أن تنتعش السياحة في هذه المنطقة. السياحة رافعة للتنمية، ستساهم في خلق فرص شغل وستعطي للمنطقة إشعاعا تستحقه. وبما أنه لا يمكننا أن نعوّل كثيرا على مجهودات المكتب الوطني للسياحة، علينا أن نؤلف هذا الكتاب لنقترح مدينتنا من خلاله على السائح الغربي بأنفسنا. فنحن أدرى بعجائب وادي درعة وإمكانات هذه المنطقة من غيرنا".
لكن، لِمَن سنكتب؟ تمّ الاتفاق على أن يكتب الجميع لـ"فريدز"، ألماني متقاعد يبحث عن وجهة سياحية دافئة تخرجه من رتابة أيامه البافارية الباردة. ولأن فريدز ليس جامعيا ولا مثقفا، يجب أن نكتب له بلغة بسيطة واضحة ونعرف كيف نغريه بزاكَورة ونستقطبه إليها بمقالات يجب أن نفصّلها على مقاسه. ثم بدأت توزّع المحاور والموضوعات على المشاركين: أنت مجاز في الجغرافيا، لم لا تكتب لنا عن واحات درعة؟ أنت مجاز في التاريخ، لم لا تكتب عن الزّوايا؟ لكن، من سيكتب لنا عن النقوش الصخرية؟ وهكذا.
حينما صدر الكتاب بعد أشهر عن دار مرسم، أحسستُ لأول مرة أن الكتابة ليست شأنا يخصّ الكتّاب وحدهم. بل هي شأن ديمقراطي. ديمقراطي جدّا. ومتاحٌ للجميع. ولعل هذا كان أوّل درس، وأهمّ درس، تعلمتُه من فاطمة المرنيسي.
(كاتب وشاعر مغربي)
كنت أسمع عن هذه التجربة، فبعض ثمراتها صدرت في كتب، فيما كانت تصلني عبر أصدقاء أخبار مشاريع عديدة تشتغل عليها فاطمة ورفاقها داخل هذه الورشات. أمّيات يكتبن حياتهن.
المعتقلون السياسيون الذين غادروا السجون التحقوا بورش فاطمة المرنيسي ليحاولوا استعادة الحياة التي بدّدوها خلف القضبان عبر الكتابة، وكانت الحصيلة عناوين من قبيل: "حديث العتمة" لفاطنة البيه، "سرقنا ضحكًا" لعزيز الوديع، و"رقّة الصخر" لعبد اللطيف ازريكم. معتقلون آخرون كتبوا ينصفون أمهاتهم. أمهات مغربيات بسيطات، أميات في غالبيتهن، أخرجتهن محنة الأبناء المحتجزين من بيوتهن ليتوزّعن على مخافر الشرطة والمحاكم والسجون لطرق الأبواب من أجل إطلاق سراح فلذات أكبادهن قبل أن يجدن أنفسهن في صلب النضال الحقوقي الوطني. ضحايا للتحرش الجنسي يكسرن الصمت لأول مرة. ضحايا الاغتصاب.
كانت الورشات تشجّع المواطنين على الكتابة في مواضيع حساسة لا يتعرّض لها الكتّاب "المحترفون". وفاطمة المرنيسي تبشِّر بالكتابة وتدعو إليها وتقترحها على المغاربة أداة تعبير وتطهير ومقاومة. كان المعنيون بالأمر يكتبون مباشرة وبكامل حريتهم، ليبقى إشراف فاطمة المرنيسي حِرَفيا بالأساس، لا يصادر منهم آراءهم الخاصة ولا يمارس الرقابة على شهاداتهم. لكن، ماذا ستفعل فاطمة في مدينة صغيرة مهملة في أقصى الجنوب الشرقي اسمها زاكَورة؟
كانت نخبة من شباب المدينة العائدين من كليات مراكش وأكَادير بشهادات جامعية، لم تمكّنهم من الحصول على وظائف، يتحلّقون حول فاطمة. وفيما كان البعض يحاولون البحث عن فرصهم في مشاريع صغيرة محليّة، سيكبر بعضها بعد سنوات من الكفاح، ظلّت الغالبية معتصمة داخل الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطّلين. كانت زاكَورة تغلي تلك الأيام. وجاءت فاطمة إلى المدينة المشتعلة لتحرّر طاقاتها المعطّلة، لتخاطب هؤلاء الشباب وتدعوهم إلى الكتابة. كانت تشرح للشباب بنبرتها الحازمة أن الجميع يجب أن يكتب. الكل بدون استثناء.
حدّدت للورشة هدفها الأوّلي. كانت تعرف كيف تنطق باسم الشباب الحاضر، وتهجس بما في ضمائرهم: "نحن أبناء زاكَورة يهمّنا أن تنتعش السياحة في هذه المنطقة. السياحة رافعة للتنمية، ستساهم في خلق فرص شغل وستعطي للمنطقة إشعاعا تستحقه. وبما أنه لا يمكننا أن نعوّل كثيرا على مجهودات المكتب الوطني للسياحة، علينا أن نؤلف هذا الكتاب لنقترح مدينتنا من خلاله على السائح الغربي بأنفسنا. فنحن أدرى بعجائب وادي درعة وإمكانات هذه المنطقة من غيرنا".
لكن، لِمَن سنكتب؟ تمّ الاتفاق على أن يكتب الجميع لـ"فريدز"، ألماني متقاعد يبحث عن وجهة سياحية دافئة تخرجه من رتابة أيامه البافارية الباردة. ولأن فريدز ليس جامعيا ولا مثقفا، يجب أن نكتب له بلغة بسيطة واضحة ونعرف كيف نغريه بزاكَورة ونستقطبه إليها بمقالات يجب أن نفصّلها على مقاسه. ثم بدأت توزّع المحاور والموضوعات على المشاركين: أنت مجاز في الجغرافيا، لم لا تكتب لنا عن واحات درعة؟ أنت مجاز في التاريخ، لم لا تكتب عن الزّوايا؟ لكن، من سيكتب لنا عن النقوش الصخرية؟ وهكذا.
حينما صدر الكتاب بعد أشهر عن دار مرسم، أحسستُ لأول مرة أن الكتابة ليست شأنا يخصّ الكتّاب وحدهم. بل هي شأن ديمقراطي. ديمقراطي جدّا. ومتاحٌ للجميع. ولعل هذا كان أوّل درس، وأهمّ درس، تعلمتُه من فاطمة المرنيسي.
(كاتب وشاعر مغربي)