الفن: من الجميل إلى الثمين

22 يونيو 2015
جاسون بولوك (1947) / أميركا
+ الخط -

نقرأ في رواية أنطوان دي سانت إكسيبري الشهيرة "الأمير الصغير" تأمّلات في الوضع الإنساني المعاصر، وفيما يبدو أنها رواية موجهة للأطفال الصغار، فهي في واقع الأمر درس في الجمال الإنساني وفي مقاومة اليأس في عالم شرس.

تفتح فقرة في الرواية على تساؤلات جادة حول مفهوم "الجمال" في ظل الواقع المعاصر وما آل إليه من تحوّلات مسّت جوهر الإدراك الجمالي، يقول الأمير الصغير: "يحبّ الأشخاص الكبار الأرقام. حينما تحدّثهم عن صديقك الجديد، لا يسألونك أبداً عن الأساسي.

لا يقولون لك أبداً: ماهي نبرة صوته؟ ما هي اللعب المفضّلة لديه؟ هل يجمع الفراشات؟ بل يسألونك: "كم عمره؟ كم عدد إخوته؟ كم وزنه؟ كم يربح أبوه؟ حينئذ فقط يتصوّرون أنهم يعرفونه. إذا قلت للأشخاص الكبار مثلاً: رأيت منزلاً جميلاً، بقرميد وردي وأزهار الغُرنوقي بالنوافذ وحمامات على السقف. لا يتمكنون من تصوّر هذا المنزل، يجب أن تقول لهم: رأيت منزلاً بمائة ألف فرنك. حينئذ يصرخون: ما أجمله".

من خلال هذا المقطع ندرك ما يمكن اعتباره تحوّلاً في إدراك معنى "الجميل" في الثقافة المعاصرة، إذ يبدو الجمال في ظل مشروع رأسملة كلّ شيء، مجرد مقولة فاقدة للمعنى وللتأثير، بعدما عُوّض بمقولة "الثمين" وهو مفهوم يرتبط بظواهر التسليع والتشييء، التي تعني أنّ القيمة تخضع لقانون العرض والطلب، وحاجة المؤسسات إلى إنتاج مستهلكين وليس أفراداً.

بذلك تصبح قيمة الأشياء في أسعارها، لا في قيمتها لذاتها، وهي نفسها الظاهرة التي طالت الإنسان، حيث أصبح حبيس منظومة تسليعية، اختزلته إلى مجرّد رقم يعكس مردوداً معيّناً.

يظهر هذا التحوّل على مستوى حضور الفن في المجتمع المعاصر، ومكانة الفني والجمالي في حياتنا كأشخاص يخضعون يومياً لعمليات توجيه مبرمجة من قبل مؤسسات سياسية وثقافية وإعلامية. لقد تحدث بودريار بكثير من السوداوية عن الفن المعاصر، فوصفه بأنه يعكس "الفراغ"؛ فلم يعد الفن يعبّر عن الجمالي وعن الأخلاقي وعن الإنساني، بل عن "اللاشيء"، لأن الوضع العام في ظل الرأسمالية الليبرالية الجديدة أصبح "بذيئاً وخليعاً".

وتحدث هربرت ماركيوز عن نفس الواقع فوصفه بـ "واقع فقد تساميه"، وهذا الفقدان اتخذ شكل ضياع جذري للمتسامي وللجمالي في حياة الإنسان.على أي أساس يتم اليوم تقييم أعمال قبيحة بأنها أعمال جميلة؟ وكيف أصبحت تُباع بأسعار خرافية؟ يفسّرعالم الجماليات مارك جيمنز ذلك ببساطة "ما دامت المؤسسة الفنية قبلتها".

المؤسسة الفنية بذلك تؤكد على إزاحة المعايير أو على تلاشيها، ولم يعد يتوقف الاعتراف بالعمل الفني بناء على صفاته الخاصة، بل على الوسط الفني الذي يقرّر ما إذا كان العمل فنياً أم لا.

يكون حضور المؤسسة هنا، إما من خلال إخضاع العمل الفني إلى رؤية عقلانية وموضوعية، أو بإخضاعه لمتطلبات الواقع الاستهلاكي الجديد، حيث لم يعد الفن يقاس بالجمال، بل يقاس كذلك بالمردودية المادية في سوق العرض والطلب. ويمكن أن نأخذ مثال الأفلام التجارية التي تعرف رواجاً جماهيرياً كبيراً على الرغم من قيمتها الفنية والمعرفية الضئيلة، بل إن جلها يخاطب الغرائز ويخاطب البلادة عند هذه الجماهير.

هكذا أزيحت مقولة الجمال ليتم استبدالها بمقولة "الناجح مادياً"، داخل مسار جاهز، فالعمل الناجح جماهيرياً يخلق إجماعاً عاماً حول قيمته، ثم يجد الدعم المادي من الشركات والإعلامي من الصحافة، ليصبح نموذجاً، أي يصبح عملاً جميلاً بمنطق القوة.

يصف الفيلسوف الايطالي أنطونيو نيغري هذا الوضع اللاإنساني بـ "القحط الأنطولوجي"، في مقابل اعتباره الفن الجميل المكان الوحيد الذي يمكن أن يحتمي فيه الإنسان من السقوط في حفرة الفراغ، إنّه يحمي "الجموع" من الوقوع في شرك العقلانية التسويقية التي لا غرض لها إلا تحويل كل شيء بمن فيه الإنسان إلى "بضاعة"، فالسوق هو الذي يخلق الفراغ الأنطولوجي، ويهدّد الجمال، ويجعل الرقم هو المحدد الأول والأخير في تقييم الأشياء والإنسان معاً.

لقد كان الأمير الصغير محقاً فعلاً، وهو يتحدّث بكثير من الحسرة عن منطق الكبار في فهم الحياة. كان يعكس صوت النقاء والوعي الذي لم يتلوّث بعدُ بعقلانية الكبار، وهي عقلانية أداتية وحسابية وكمية. إنه الصوت الدفين للفن الجميل الذي هو خطاب سالب يقاوم التشوّهات التي طالت جسد الحياة الإنسانية، وأحالها إلى مجرد كتلة قابلة للقياس والترييض.

ومن هنا، نفهم أنّ الفن هو أيضاً تنبيه إلى الجوهري في ذاته وفي الوجود، وليس غريباً أن تسقط طائرة الطيار في أرض متصحّرة، قاحلة، هي رمز لما يسميه نيغري بـ "القحط الانطولوجي"، حيث الموت في كل مكان. يخرج هذا الطفل الأبدي من اللامكان (أليس الخيال هو اللامكان عينه؟)، ليقدم دروساً في الجمال الإنساني، أو على الأقل في ما تبقى من ذلك الجمال.
المساهمون