مع بدايات ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، كان للجدران المصرية دور كبير، حين ألهب فنانو الغرافيتي حماسة الخطوط والألوان التي صاحبت هتافات الحناجر الثائرة. تفاعلت الرسوم مع جميع الأحداث، ووثقت كافة الجرائم التي ارتُكبت في حقّ الشعب المصري وثورته على الاستبداد. وقد كثرت اللوحات المتلاصقة في كافة الميادين والشوارع المصرية، بداية من ميدان التحرير وما حوله حتى أصبحت مصر أكبر متحف فني مفتوح في التاريخ. فقد تجاورت اللوحات بصورة عفوية، وفي الغالب لم يتعد فنان على لوحة الآخر ليرسم لوحته ويعبر عن رؤيته في نظام عجيب.
كان الأمر مزعجاً جداً للسلطة، إذ عملت على محوها مبكراً لإزالة السجل الأسود للثورة المضادة في حق الشعب ومطالبه المشروعة في العيش والحرية والكرامة الإنسانية، فعلى سبيل المثال كانت الجدران المواجهة والقريبة من وزارة الداخلية في شارع محمد محمود، تتوجه بأصابع الاتهام للجهاز الشرطي بإهدار كرامة الإنسان المصري طوال عقود، ثم رصدت ما قامت به قوات الأمن ضد المتظاهرين السلميين من اغتيالات وإصابات.
تذكرنا جدران الثورة بأسباب الثورة على مبارك، كما سنشاهد في بعض الميادين بالقاهرة غرافيتي يحمل صورة إنسان صارخ يقول "تحيا الثورة"، ورسم آخر يصور مبارك أمام رأس "تنين" بجانبها كلمة "ارحل"، إضافة إلى رسوم "لا للفساد" وغيرها الآلاف (وليس المئات) من الرسوم.
ترصد الرسومات أحداث محمد محمود، ومجلس الوزراء وماسيبرو، وتذكرنا بالشهداء، فمن صورة الشيخ الأزهري عماد عفت إلى المسيحي مينا دانيال إلى آخرين أقل شهرة منحوا حياتهم، من أجل غد أفضل للشعب، وإلى شهداء مجهولين قتلوا غدرا ولم يتعرف عليهم ذووهم. وكان للعبارات المأخوذة من لقطات مصورة دور كبير في التذكير بالسلوك الغاشم للسلطة مثل عبارة: "جدع يا باشا جت في عينه" التي نقلتها الكاميرات، على لسان أحد الجنود وهو يهنئ قائده الضابط الذي فقأ برصاصه عين أحد المتظاهرين، في شارع محمد محمود الذي أطلق عليه الفنانون عبر غرافيتي كبير "شارع عيون الحرية"!
كان "للألتراس" دور كبير في نشر الغرافيتي الثوري، فلم تترك الجدران حادثة تتعلق بهم إلا ودونتها، فلشهداء مذبحة استاد بورسعيد غرافيتي كبير على جدران النادي الأهلي إضافة إلى لوحات أصغر في أماكن متفرقة في طول البلاد وعرضها حيث تتركز في أماكن الشهداء، كذلك ضحايا نادي الزمالك في مذبحة الدفاع الجوي.
في شهر سبتمبر/أيلول 2012 كانت أول محاولة لإزالة غرافيتي ميدان التحرير، كان انتصار الثورة لا يزال في الأذهان، وكان من البديهي أن تتهم حكومة هشام قنديل بمباركة هذه الفعلة الشنعاء في نظر الثوار، فقد خرج ببيان صحافي يشجب ما قام به (عمال النظافة)، مؤكداً أن ذلك يتنافى مع الحرص على أن يتم تخليد ذكرى الثورة في ميدان التحرير. كما دعا قنديل الفنانين من الرسامين التشكيليين وغيرهم إلى تحويل ميدان التحرير لساحة تليق بشهداء الثورة بحيث تصبح مزاراً لرمز الثورة المصرية ومنبراً لحرية الرأي من خلال اللوحات الجدارية وأعمال الجرافتي التى تعكس روح ثورة 25 يناير ومبادئها وتطلعات الشعب المصري ووحدته وتماسكه بمختلف قواه الوطنية والثورية والسياسية.
وتشير دراسة أكاديمية عن غرافيتي ثورة يناير، للدكتور جورج فكري والدكتورة غادة مصطفى، إلى أن الألوان الساخنة التي امتازت بها لوحات التحرير، خاصة بعض الأعمال محل الدراسة، لجأت إلى ما يُسمى العنف البصري، حيث تعمل على جذب العين رغماً عنها بواسطة الألوان الصارخة والعبارات الشديدة أو القاسية، وفي هذا عنف رمزي لأن المتلقي يستجيب له مرغماً، فيبدأ في التفاعل مع المحتوى البصري واللفظي الموجه إليه عبر العمل الفني. أشارت الدراسة أيضاً إلى أن كثيراً من اللوحات استخدمت عباراتها المرفقة لغة الفرانكو آرب (لغة فيسبوك وتويتر)، حيث كانت لغة التواصل بين شباب الثورة، فمن خلال العمل نجد عنفاً لفظياً في كلمة "حرية" بالفرانكو آرب، و"بوليس" باللغة الإنكليزية، كما تحتوي العديد من الأعمال على لغة بصرية تمثلت في منارة كنيسة ومئذنة جامع، وبرج حمام، وبرج القاهرة، وساقية، والأهرامات الثلاثة وكل هذه رموز بصرية تؤكد على الحضارة والانتماء.
وتحتج السلطات المصرية في العادة بأن تلك الأعمال غالباً ما تكون من أشخاص مجهولين؛ لأنها أفعال مخالفة للقوانين واعتداء على ممتلكات الآخرين! وقد كان ذلك مسوغاً للحكومة المصرية بعد 30 يونيو للبدء في حملة لإزالة الغرافيتي بميدان التحرير وما حوله من شوارع القاهرة. غير أن الصراع على امتلاك الجدران لا يزال على أشده، وكثيراً ما يستيقظ الناس في شوارع مصر ليجدوا لوحات مطبوعة على جدرانهم تذكرهم بأيام الثورة ومآلاتها، وتنغص عليهم بتذكيرهم بوعود الانقلابيين بأن تكون مصر "أم الدنيا وقد الدنيا". ولا يشك الفنانون المصريون في أن الانتصار سيكون لألوانهم الصارخة مهما حاول جنود فرعون محوها.
اقــرأ أيضاً
على الرغم من المحاولات السلطوية المستميتة لإزالة ذاكرة الثورة الغرافيتية، فإن محاولات المصريين لتوثيق تلك المرحلة استثمرت وسائل أخرى، حيث قاموا بتصوير الجدران، وكان كتاب "الجدران تهتف: غرافيتي الثورة المصرية" أول كتاب يوثق لوحات الثورة الجدارية التي أزيل معظمها الآن، كما أنشأ نشطاء مجموعات إلكترونية مفتوحة على الفيسبوك لتوثيق غرافيتي الثورة المصرية، وكان من أكثرها بلاغة ذلك الرسم الذي حمل صورة أيقونة الثورة "خالد سعيد"، وتحته عبارة مؤلمة تقول: "اللي قتلك لسه حي".. وأن "الثورة مستمرة"!
اقــرأ أيضاً
كان الأمر مزعجاً جداً للسلطة، إذ عملت على محوها مبكراً لإزالة السجل الأسود للثورة المضادة في حق الشعب ومطالبه المشروعة في العيش والحرية والكرامة الإنسانية، فعلى سبيل المثال كانت الجدران المواجهة والقريبة من وزارة الداخلية في شارع محمد محمود، تتوجه بأصابع الاتهام للجهاز الشرطي بإهدار كرامة الإنسان المصري طوال عقود، ثم رصدت ما قامت به قوات الأمن ضد المتظاهرين السلميين من اغتيالات وإصابات.
تذكرنا جدران الثورة بأسباب الثورة على مبارك، كما سنشاهد في بعض الميادين بالقاهرة غرافيتي يحمل صورة إنسان صارخ يقول "تحيا الثورة"، ورسم آخر يصور مبارك أمام رأس "تنين" بجانبها كلمة "ارحل"، إضافة إلى رسوم "لا للفساد" وغيرها الآلاف (وليس المئات) من الرسوم.
ترصد الرسومات أحداث محمد محمود، ومجلس الوزراء وماسيبرو، وتذكرنا بالشهداء، فمن صورة الشيخ الأزهري عماد عفت إلى المسيحي مينا دانيال إلى آخرين أقل شهرة منحوا حياتهم، من أجل غد أفضل للشعب، وإلى شهداء مجهولين قتلوا غدرا ولم يتعرف عليهم ذووهم. وكان للعبارات المأخوذة من لقطات مصورة دور كبير في التذكير بالسلوك الغاشم للسلطة مثل عبارة: "جدع يا باشا جت في عينه" التي نقلتها الكاميرات، على لسان أحد الجنود وهو يهنئ قائده الضابط الذي فقأ برصاصه عين أحد المتظاهرين، في شارع محمد محمود الذي أطلق عليه الفنانون عبر غرافيتي كبير "شارع عيون الحرية"!
كان "للألتراس" دور كبير في نشر الغرافيتي الثوري، فلم تترك الجدران حادثة تتعلق بهم إلا ودونتها، فلشهداء مذبحة استاد بورسعيد غرافيتي كبير على جدران النادي الأهلي إضافة إلى لوحات أصغر في أماكن متفرقة في طول البلاد وعرضها حيث تتركز في أماكن الشهداء، كذلك ضحايا نادي الزمالك في مذبحة الدفاع الجوي.
في شهر سبتمبر/أيلول 2012 كانت أول محاولة لإزالة غرافيتي ميدان التحرير، كان انتصار الثورة لا يزال في الأذهان، وكان من البديهي أن تتهم حكومة هشام قنديل بمباركة هذه الفعلة الشنعاء في نظر الثوار، فقد خرج ببيان صحافي يشجب ما قام به (عمال النظافة)، مؤكداً أن ذلك يتنافى مع الحرص على أن يتم تخليد ذكرى الثورة في ميدان التحرير. كما دعا قنديل الفنانين من الرسامين التشكيليين وغيرهم إلى تحويل ميدان التحرير لساحة تليق بشهداء الثورة بحيث تصبح مزاراً لرمز الثورة المصرية ومنبراً لحرية الرأي من خلال اللوحات الجدارية وأعمال الجرافتي التى تعكس روح ثورة 25 يناير ومبادئها وتطلعات الشعب المصري ووحدته وتماسكه بمختلف قواه الوطنية والثورية والسياسية.
وتشير دراسة أكاديمية عن غرافيتي ثورة يناير، للدكتور جورج فكري والدكتورة غادة مصطفى، إلى أن الألوان الساخنة التي امتازت بها لوحات التحرير، خاصة بعض الأعمال محل الدراسة، لجأت إلى ما يُسمى العنف البصري، حيث تعمل على جذب العين رغماً عنها بواسطة الألوان الصارخة والعبارات الشديدة أو القاسية، وفي هذا عنف رمزي لأن المتلقي يستجيب له مرغماً، فيبدأ في التفاعل مع المحتوى البصري واللفظي الموجه إليه عبر العمل الفني. أشارت الدراسة أيضاً إلى أن كثيراً من اللوحات استخدمت عباراتها المرفقة لغة الفرانكو آرب (لغة فيسبوك وتويتر)، حيث كانت لغة التواصل بين شباب الثورة، فمن خلال العمل نجد عنفاً لفظياً في كلمة "حرية" بالفرانكو آرب، و"بوليس" باللغة الإنكليزية، كما تحتوي العديد من الأعمال على لغة بصرية تمثلت في منارة كنيسة ومئذنة جامع، وبرج حمام، وبرج القاهرة، وساقية، والأهرامات الثلاثة وكل هذه رموز بصرية تؤكد على الحضارة والانتماء.
وتحتج السلطات المصرية في العادة بأن تلك الأعمال غالباً ما تكون من أشخاص مجهولين؛ لأنها أفعال مخالفة للقوانين واعتداء على ممتلكات الآخرين! وقد كان ذلك مسوغاً للحكومة المصرية بعد 30 يونيو للبدء في حملة لإزالة الغرافيتي بميدان التحرير وما حوله من شوارع القاهرة. غير أن الصراع على امتلاك الجدران لا يزال على أشده، وكثيراً ما يستيقظ الناس في شوارع مصر ليجدوا لوحات مطبوعة على جدرانهم تذكرهم بأيام الثورة ومآلاتها، وتنغص عليهم بتذكيرهم بوعود الانقلابيين بأن تكون مصر "أم الدنيا وقد الدنيا". ولا يشك الفنانون المصريون في أن الانتصار سيكون لألوانهم الصارخة مهما حاول جنود فرعون محوها.
على الرغم من المحاولات السلطوية المستميتة لإزالة ذاكرة الثورة الغرافيتية، فإن محاولات المصريين لتوثيق تلك المرحلة استثمرت وسائل أخرى، حيث قاموا بتصوير الجدران، وكان كتاب "الجدران تهتف: غرافيتي الثورة المصرية" أول كتاب يوثق لوحات الثورة الجدارية التي أزيل معظمها الآن، كما أنشأ نشطاء مجموعات إلكترونية مفتوحة على الفيسبوك لتوثيق غرافيتي الثورة المصرية، وكان من أكثرها بلاغة ذلك الرسم الذي حمل صورة أيقونة الثورة "خالد سعيد"، وتحته عبارة مؤلمة تقول: "اللي قتلك لسه حي".. وأن "الثورة مستمرة"!