03 فبراير 2020
العلاقات الفرنسية الخليجية تتقدم..
في الخامس من مايو/أيار الجاري، استضيف الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، في القمة التشاورية لقادة دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض. وبذلك، يعتبر أول رئيس دولة غربي تُوجَّه إليه دعوة لحضور مثل هذه القمة. وحضور "هولاند العربي"، وفقا لوصف الصحافة الفرنسية، مؤشر على التقارب الفرنسي الخليجي الذي كان قد بدأه الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، وجاءت التحولات الدولية والإقليمية، أخيراً، لتدعمه، حيث تستفيد فرنسا من "الفتور النسبي" الذي تشهده العلاقات الخليجية الأميركية والبريطانية، كما تبدي دول الخليج تقديراً للمواقف الفرنسية اللافتة في مساندتها، ودعم خياراتها الاستراتيجية.
أدرك الرئيس الفرنسي مغزى الرسالة التي رغبت دول الخليج في إيصالها إلى الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا، وهي أنها غير مضطرة للاعتماد المطلق عليهما، بل في وسعها إيجاد شركاء عسكريين آخرين خارج نطاق الاحتكار الاستراتيجي الأميركي البريطاني للمنطقة. وقد فهم هولاند الرسالة، ولم يتوان عن تطمين مضيفيه بأن "التهديدات التي تواجه دولهم تواجه فرنسا أيضا"، وأن فرنسا تطمح إلى أن تكون "حليفاً قوياً وموثوقاً لدول الخليج". يبدو أن فرنسا بدأت في إعادة تموضعها في المنطقة، وبدأت تستفيد من امتعاض دول الخليج من السياسة الأميركية، ما يوحي بأن "شهر عسل العلاقات الخليجية الفرنسية" قد بدأ، ويعزى ذلك إلى أربعة عوامل رئيسة، ساهمت في قلب الموازين:
التقارب الأميركي الإيراني وتقارب فرنسي خليجي
حاول الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في اجتماعه، في كامب ديفيد، أخيراً، بقادة دول مجلس التعاون الخليجي تطمينهم بالتأكيد على التزام بلاده بحماية أمن دول المجلس "الراسخ"، وعزمه تعزيز التعاون العسكري مع الدول الخليجية الست، لمواجهة تنامي النفوذ الإيراني في المنطقة، ومحاولة إيران زعزعة الاستقرار في المنطقة. وعلى الرغم من التطمينات الأميركية، يصعب إنكار شعور دول الخليج بالخيبة تجاه أميركا، لا سيما في ما يتعلق بالضمانات الأمنية التي ما عادت تحظى بمصداقية عالية بعد التقارب الأميركي - الإيراني المشهود، ما أدى إلى تراجع الثقة بين الجانبين. تشعر دول الخليج بأن التقارب الأميركي الإيراني والصفقة النووية جاء على حسابها، وإن همّ أوباما الأول هو إحراز تقدم في الملف النووي مع إيران، وتحقيق اختراق دبلوماسي أخير، يختتم به دورة رئاسته، وذلك على الرغم من انعدام الضمانات الكافية من الطرف الإيراني. كما يعتقد قادة الخليج أن حلم أوباما بالصفقة النووية قد يدفعه إلى تقديم تنازلات لإيران، ما قد يعني التضحية بأمن الخليج. كما أن تخلي أميركا عن نظام حسني مبارك، حليف دول الخليج، وفتحها قنوات اتصال مع "الإخوان المسلمين" ما زالت حاضرة في ذهن صانع القرار الخليجي. كما أن تراجع البيت الأبيض عن خطوطه الحمراء تجاه الرئيس السوري، بشار الأسد، ورفض باراك أوباما شن هجمات ضد نظام الرئيس الأسد عام 2013 ساهم في تقويض بقايا ثقة الخليج في أميركا. وأخيراً، تصريح أوباما، أن "الأخطار التي تواجه دول الخليج لا تأتي من احتمال وقوع هجوم من إيران، ولكن، من الاستياء الذي يحدث داخل بلدانهم، بما في ذلك بطالة الشباب التي لا تترك أمامهم منفذاً للتظلم السياسي"، على حد قول أوباما. يدرك قادة الخليج أن ثمن الحماية الأمنية الأميركية للمنطقة يتطلب تبني سياسات إصلاحية داخلية.
في المقابل، أبدت فرنسا ثباتاً في مواقفها، وصلابة في المفاوضات النووية مع إيران، وأصرت على فرض الضمانات الكافية، حتى لا تتمكن إيران من امتلاك السلاح النووي. ولم يقتصر تعهد فرنسا على تزويد دول الخليج بالسلاح فقط، بل أيضا تعهدت بنشر قواتها في منطقة الخليج إذا لزم الأمر، وإعادة تموضع جنودها في المحيط لاحتواء الصين، في ظل الانسحاب الأميركي من المنطقة. علاوة على ذلك، تتشارك دول الخليج وباريس الرؤية نفسها، في ما يتعلق بالتحوّلات السياسية التي شهدتها المنطقة، أخيرا، لا سيما في دعم الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، واستبعاد الرئيس بشار الأسد من أي تسوية مستقبلية للأزمة السورية، ودعم المعارضة السورية والملف اللبناني، وتقديمها الدعم الاستخباراتي للتحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن ضد الحوثيين.
تراجع النفوذ السياسي البريطاني
لا يختلف الموقف الخليجي تجاه الولايات المتحدة كثيراً عنه تجاه بريطانيا، على الرغم من التحالف الاستراتيجي بين الجهتين، إلا أن تعامل بريطانيا مع كل من الربيع العربي والملف النووي الإيراني والإخوان المسلمين ساهم في تراجع مستوى الثقة بين الطرفين. أبرز ملامح هذا التراجع كان انسحاب دولة الإمارات من محادثات سعي إلى شراء 60 طائرة مقاتلة من طراز "تايفون"، والتي تشارك في تصنيعها شركة "بي إيه إي" سيستمز البريطانية. علما أن الانسحاب جاء على الرغم من ضغوط مارسها رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، لإتمام الصفقة.
وكانت الشركة تعول على توقيع صفقة مع الإمارات قيمتها نحو 9.82 مليارات دولار. ويعزى سبب خسارة بريطانيا الصفقة إلى "استياء" أبوظبي من موقف بريطانيا من انتفاضات "الربيع العربي"، وطريقة تعاملها مع جماعات إسلامية في المنطقة، وتردد بريطانيا في تصنيف الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، وفي ظل تقارير تلمح إلى أن مدارس في الخارجية البريطانية تدعم الاعتراف والتعامل مع "الإخوان"، بالإضافة إلى فشل بريطانيا في المضي نحو قرار بالتدخل العسكري ضد سورية. وما زاد الأمر تعقيدا رفض البرلمان البريطاني القيام بتحرك عسكري ضد نظام الأسد، ما جعل ثقة قادة الخليج بحليفهم الإنجليزي التقليدي تهتز.
ونشرت صحيفة فايننشال تايمز تقريرا حول إنهاء الإمارات تعاقدها مع مدربين عسكريين بريطانيين، ما صبَّ في مصلحة فرنسا المتعطشة للعب دور أساسي في المنطقة، والتي تحاول أن تحل محل بريطانيا، كأهم حليف أوروبي لدول الخليج. وقد أنذر تزايد الدور الفرنسي في الخليج بريطانيا بدق ناقوس الخطر على مصالحها، ولا سيما الاقتصادية منها، ودفع بها إلى العودة إلى المنطقة مرة أخرى، من خلال القاعدة العسكرية البريطانية الجديدة في البحرين، لتكون أول قاعدة دائمة للدول الأوروبية في الشرق الأوسط، منذ انسحابها من المنطقة عام 1971. وستسمح القاعدة الجديدة التي بلغت تكلفة إنشائها 23 مليون دولار لبريطانيا بإرسال عدد أكبر من السفن، لتعزيز استقرار الخليج، وهذا مؤشر على أن بريطانيا ستوسع نطاق مسؤولياتها الأمنية في منطقة الشرق الأوسط، تزامناً مع تزايد التركيز الأميركي على آسيا والمحيط الهادئ.
ويذكر أن دول الخليج العربي تحتضن مليارات الجنيهات من الاستثمارات البريطانية والصادرات، ويقيم فيها نحو 175 ألف مغترب بريطاني، ما يجعل المملكة المتحدة أكثر حرصا على ألّا تحدث أي كارثة مفاجئة في هذه المنطقة. ويسمح الاتفاق بين لندن والمنامة لبريطانيا ببسط نفوذها في منطقة حيوية بأقل حد ممكن من النفقات، خصوصاً أن الحكومة البحرينية تكفلت بفاتورة إعادة بناء القاعدة البحرية، في حين تقتصر مسؤولية وزارة الدفاع البريطانية على تأمين تكاليف التشغيل فحسب. على الرغم من جهود حكومة ديفيد كاميرون للتقارب مع دول الخليج عبر إطلاقة مبادرة الخليج لدعم مستثمري الخليج، وذلك عبر توسيع الهيئة البريطانية للتجارة والاستثمار دعم المستثمرين التجاريين في أربع دول خليجية، السعودية وقطر والكويت والإمارات، إلا أن تخبُّط سياسة بريطانيا الخارجية ومحاولتها كسب جميع الأطراف في المنطقة، ولا سيما إيران والربيع العربي، إضافة إلى انتقاد وسائل الإعلام البريطانية لدول الخليج، ولا سيما ملف حقوق الإنسان، ساهمت في إضعاف مبادرتها التجارية والاقتصادية.
المنافسة البريطانية الفرنسية
تعتبر منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً الخليج العربي وشمال أفريقيا، الجنة الموعودة، لتجار وشركات الأسلحة الأوروبية. وحسب إحصائيات مركز استوكهولم، فإن منطقة الشرق الأوسط أنفقت 123 مليار دولار على قطاع الدفاع خلال عام 2011، كما أن الإنفاق الدفاعي يستحوذ على نسبة كبيرة من إجمالي الناتج المحلي السنوي في هذه الدول، حيث يتراوح بين 3.3% في الإمارات إلى 12.8% في كل من عمان السعودية التي أنفقت بدورها نحو 48.5 مليار دولار في عام، وهو ما يشكل 2.8% من حجم الإنفاق الدولي الدفاعي، وفقا لإحصائيات معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
ويشكل نجاح فرنسا في ترويج طائرتها إلى الدول العربية إنجازاً لها، لأن تلك الصفقات تعتبر الأولى التي تبيعها فرنسا من هذا النوع من الطائرات. وعلى الرغم من النجاح الذي حققته الشركة في مجال الطيران المدني، إلا أنها أخفقت في بيع طائراتها من طراز رافال إلى أي عميل خارجي غير الحكومة الفرنسية التي تعتبر المشتري الرئيسي لتلك الطائرات منذ البدء في إنتاجها في عام 2001. كما أظهرت البيانات المالية للشركة أن مبيعات قطاع الدفاع للشركة تأثرت في السنوات بين 2007 إلى 2011، حيث انخفضت مساهمتها في مجمل المبيعات من 49% في عام 2007 إلى 18% في 2011.
وعلى الرغم من فتور العلاقات الخليجية الأميركية وتنامي الدور الفرنسي، إلا أننا لا نستطيع تقزيم الدور السياسي والعسكري الأميركي في المنطقة العربية، فما زالت الولايات المتحدة تملك قواعد عسكرية عديدة، في قطر والسعودية والإمارات والكويت وعمان، وما زالت تملك مفاتيح الضمانات الدفاعية التي تحتاجها دول الخليج. وعليه، فإن القدرات العسكرية الأميركية ما زالت الأضخم، مقارنة مع الدول الأوروبية التي تعتمد، بشكل مباشر، على الحماية الأميركية تحت مظلة الناتو. فحتى، وإن قدمت فرنسا الضمانات العسكرية لدول المنطقة، إلا أن الإمكانات العسكرية الأميركية ما زالت الضامن الأساسي لدول المنطقة، وما زال الدور الأميركي هو المسيطر أمنياً وسياسياً واقتصاديا. كما أن الخلافات الأوروبية واختلاف الأولويات وتباين القدرات الأوروبية يشكل نقطة ضعف أمام الطموحات الأوروبية في المنطقة.
ويشكل الحضور الروسي والصيني تحدياً أمام الوجود الفرنسي في المنطقة، خصوصاً مع محاولات الصين حجز مكان لها في المنطقة، عبر قاعدتها العسكرية في جيبوتي التي تتولى الإشراف على العمليات "التجارية والاقتصادية والأمنية" للصين، وهذا يعني أن هذه القاعدة ستشكل حجر أساس لوجود عسكري أقوى للصين في المرحلة المقبلة، خصوصاً إذا امتلكت الصين حاملة طائرات ستصبح بموجبها قوة عسكرية عظمى، حيث زارت، أخيراً، مدمرة وفرقاطة صينيتان ميناء بندر عباس الإيراني، ونفذت تدريبات مشتركة مع القوات البحرية الإيرانية أربعة أيام، وفي العام 2010 رست سفن صينية في ميناء زايد في الإمارات، بهدف المشاركة في عمليات مكافحة القرصنة في خليج عدن. وفي العام نفسه، تزودت طائرات صينية بالوقود من إيران، في طريقها إلى تدريبات في تركيا. كانت هذه الزيارة الأولى التي تقوم بها طائرات حربية أجنبية لإيران منذ الثورة 1979. وينبثق الوجود الصيني في منطقة الخليج عن رغبة خليجية يسعى، من خلالها، قادة الدول إلى إنشاء سلة دفاعية، تساهم في إيجاد توازن الخليج واستقراره، في ظل التغيير السريع في المصالح والحلفاء في المنطقة. وعليه، اقتصادياً، تشكل الصين منافساً تجارياً كبيرا للولايات المتحدة وأوروبا في الخليج، حيث تفيد الأرقام بأن حجم التجارة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي في عام 2012، قفزت إلى 155.03 مليار دولار، أي بزيادة 15.9% على أساس سنوي، محتلة بذلك نحو 70% من إجمالي حجم التجارة بين الصين والدول العربية.