18 مايو 2015
الصفقة الانتخابية والخيارات الفلسطينية الصعبة
تأتي "صفقة القرن" ضمن السباق الانتخابي الإسرائيلي – الأميركي، وكأن هناك اتفاقا مشتركا بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتياهو، والرئيس الأميركي دونالد ترامب لطرح "صفقة انتخابية" لتحقيق مصالح انتخابية. مع أن تنفيذ الصفقة بدأ عمليا منذ فترة، بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، أو شرعنة الاستيطان وقطع المساعدات الأميركية وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وما جرى الأسبوع الماضي هو الإعلان عنها رسميا قُبيل الانتخابات الإسرائيلية، لتحقيق مكاسب انتخابية تبادلية بينها. فبطرحه صفقته، يساعد ترامب نتنياهو في المرحلة الحالية للفوز في انتخابات مارس/ آذار المقبل الإسرائيلية، وفي المقابل سيساعد نتنياهو ترامب في الانتخابات الأميركية الرئاسية (نوفمبر/ تشرين الثاني). ووقود هذا السباق الانتخابي هو حقوق الشعب الفلسطيني. كما أن إطلاق صفقة على ما طرح مغالطة، كون أن لأي صفقة طرفين، يحاولان إرضاء ناخبيهما اليمينيين بخطاب شعبوي على حساب الشعوب الأخرى، فالوصف الأفضل لما طرح هو خطة الإملاءات الإسرائيلية الأميركية على الشعب الفلسطيني.
بغض النظر عن الأغراض الانتخابية، العلاقات الإسرائيلية - الأميركية تعيش الآن عصرها الذهبي، وهو ما يفسّر محاولة القيادة الإسرائيلية الاستفادة من عصر ترامب بقدر الإمكان، للحصول على مواقف وسياساتٍ أميركيةٍ لصالحها لإحداث تغيير في قواعد اللعبة السياسية في الشرق الأوسط وهو ما حصل. نجح نتنياهو في إقناع الولايات المتحدة في نقل سفارتها إلى القدس المحتلة، والاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل الأبدية غير المقسّمة. ونجح أيضا في شرعنة الولايات المتحدة الاستيطان ووقف دعمها المالي للسلطة الفلسطينية، ووقف الدعم المالي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، واغلاق مكاتب منظمة التحرير في واشنطن، والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وأخيرا تبنّي صفقة القرن ويهودية الدولة وغيرها من المواقف السياسية التي كسرت قوالب السياسة الأميركية في المنطقة.
تعلم إدارتا ترامب ونتنياهو أن ما تم عرضه على الفلسطينيين لا يلبّي أدنى طموحاتهم السياسية، وما هو معروضٌ عليهم ليس صفقةً بقدر ما هو تصفية لقضيتهم بقيمة 50 مليار دولار، لأن
الصفقة تبدو وثيقة استسلام أكثر من كونها أي شيء آخر، إذ تمثل فرصةً لإسرائيل لتأكيد انتصارها على الفلسطينيين مرة أخرى وإلى الأبد، بعد سبعة عقود من الاستقلال، وأكثر من قرن منذ بدء الاستيطان الصهيوني في فلسطين. ويعلم الكل أيضا أنه ما من قائد فلسطيني يجرؤ على قبول هذه الصفقة، وقد اعتبر الرئيس محمود عباس قبولها انتحارا سياسياً. ولذلك فإن الطرفين، الأميركي والإسرائيلي، ينتظران "اللا" الفلسطينية للصفقة، لتحميل الفلسطينيين مرة أخرى مسؤولية فشل حل الصراع، كما حصل في "كامب ديفيد" في العام 2000. فيما لم تضيع القيادات الفلسطينية أي فرصة سلام حقيقية وعادلة عرضت علينا، والكلام عن أنها كانت محترفةً في إضاعة الفرص غير منطقي، فمنذ عام 1970 وهي تقدم التنازلات، وقبلت معظم قرارات المجلس الوطني بالتدرّج العملية السلمية. وفي عام 1974، أقر المجلس الوطني الفلسطيني برنامج النقاط العشر التي صاغتها قيادات الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وتدعو إلى إنشاء سلطة وطنية على أي قطعة محرّرة من أرض فلسطين، والعمل الفاعل لإنشاء دولة علمانية ديمقراطية ثنائية القومية في فلسطين، يتمتع فيها كل المواطنين بالمساواة والحقوق، بغض النظر عن العرق، الجنس أو الدين. وفي العام 1993، جاء القفز إلى اتفاق أوسلو، وعلى الرغم من مساوئه، إلا أن قبول فلسطينيين كثيرين به جاء أملا في ظل التأييد الأميركي والأوروبي والعربي. كانت "أوسلو" لحظةً تاريخية، اعترفت فيه القيادة الفلسطينية بدولة إسرائيل، بينما قبل الإسرائيليون منظمة التحرير كيانا يمثل الشعب الفلسطيني، وكانت تلك غلطة ارتكبها المفاوض الفلسطيني.
مبادرة ترامب نتنياهو عاجزة، لعدة أسباب، في مقدمتها الرفض الفلسطيني، وغياب الإجماع الأميركي عليها، سيما من الحزب الديمقراطي الذي يعتقد أنها غير قابلة للتنفيذ، بالإضافة إلى غياب الإجماع الدولي، سيما الاتحاد الأوروبي الذي اكد "التزامه الصلب والموحد بحل دولتين قابل للتطبيق". كما ان الموقف الروسي رهن الموافقة عليها بالموافقة الفلسطينية والعربية.
هل تملك السلطة الوطنية الفلسطينية استراتيجية لمقاومة تنفيذ الصفقة الذي بدأ منذ فترة؟ يؤمل أن تملك استراتيجية، وليس تصريحات ووعودا، وقد رفعت تصريحات المسؤولين الفلسطينيين سقف التوقعات الشعبية، من خطاب الرئيس محمود عباس في اجتماع القيادة الفلسطينية، وكان المتوقع منه قلب الطاولة، لكن الخطاب أطفأ بماء بارد التوقعات الشعبية. وعباس يتبع سياسة النفس الطويل، وما زال يُعول على الحلول والطرق السلمية لحل الصراع، وما زال يستبعد اتخاذ قرار حل السلطة. السياسة الرسمية للسلطة الفلسطينية على مدار السنوات العشر الماضية هي سبب عجز الفلسطينيين عن اتخاذ قرارات مصيرية.
هل يمكن اتخاذ قرار حل السلطة الفلسطينية؟ ليس القرار هيناً يمكن اتخاذه بين ليلة وضحاها،
لتعدّد تداعياته القانونية والسياسة والاجتماعية على المجتمع الفلسطيني. لقد أوجدت السلطة فئة اجتماعية يقدر عددها بمليون نسمة مرتبطين بوجودها واستمراريتها، وبالتالي لديهم مصلحة باستمرارها على علاتها. كما أن حل السلطة هو دعوة مباشرة إلى إسرائيل للسيطرة على ما تبقى من الضفة الغربية التي تعتبرها أراضي "يهودا والسامرة"، وستواصل استيطانها فيها. هي دعوة إلى تدمير إطار قانوني سياسي رسمي معترف به دولياً ناضل الفلسطينيون من أجله، وقدموا تضحياتٍ لإقامته. حل السلطة يعني غياب الحاضنة الرسمية الشعبية، والمرجعية السياسية، في ظل تهميش الفصائل ومنظمة التحرير الفلسطينية وضعفهما، وبالتالي سيعني ذوبان السلطة العودة بالشعب الفلسطيني إلى نقطة الصفر. وأخيراً، ليس حل السلطة خياراً ترغب في رؤيته أوروبا ولا أميركا، لأن أموالا دولية وأميركية استثمرت في بناء هذه السلطة، والإقدام على حلها ستكون له آثار جسيمة. ولا أحد يرغب في تفرق أمن السلطة وشرطتها المدرّبة التي لا غنى عنها "لترتيب البيت الفلسطيني". وذوبان السلطة يعني انتشار الفوضى والفلتان الأمني الذي سيأكل الأخضر واليابس، إذا تم تفكيك الأجهزة الأمنية، وإلغاء القضاء والمحاكم، مما يتبعه انتشار الجريمة، وارتفاع نسبة البطالة ومستوى الفقر.
إلى ذلك، القيادة الفلسطينية مقبلة على فترة صعبة، في ظل رفضها الإملاءات الأميركية الإسرائيلية المشتركة. لم يعد التهديد الأميركي - الإسرائيلي مقتصرا على الشعب، بل الكل مهدّد الآن، شعباً وقيادة. والرئيس أبو مازن مدرك أنه شخصيا مهدد، وخطابه أخيرا، وزيارته ضريح ياسر عرفات، يدلان على إدراكه مستوى التهديد، وسقوط الرهانين، الأميركي والعربي.
وسيشكل الزمن عاملا حاسما في معرفة إلى أين تسير الأمور، ففي ظل الرفض الفلسطيني، تراهن جميع الأطراف على عامل الوقت. ويراهن الرئيس أبو مازن على خسارة نتنياهو الانتخابات الإسرائيلية الشهر المقبل (مارس/ آذار)، أو سجنه بسبب ملفات الفساد المرفوعة ضده. وكما يراهن أبو مازن على خسارة ترامب في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. ويعتقد أن رحيل أي منهما مكسب فلسطيني. وفي المقابل، يراهن نتنياهو وترامب على رحيل أبو
مازن، والتحضير لليوم الذي سيشغر فيه كرسي الرئاسة الفلسطينية. وهذا ما يفسّر إعطاء السلطة أربع سنوات للتحرك. خلال أربع سنوات، تبدا إسرائيل في تطبيق حصتها من صفقة القرن بشكل أحادي الجانب، ومن دون الرجوع إلى السلطة الوطنية. سيُصرّ نتنياهو على ضم الأراضي الفلسطينية، مستغلا الدعم الأميركي اللامحدود، وسيستمر نزيف الأراضي الفلسطينية، وتغيير المعالم الجغرافية والإنسانية للفلسطينيين. ستتواصل العقوبات الأميركية على الفلسطينيين. وفي السياق نفسه، ستحاول إسرائيل وأميركا التواصل مع قيادات فلسطينية أو إيجاد قيادات فلسطينية جديدة تقبل صفقة القرن. كما حصل مع الرئيس أبو عمار، وكأن التاريخ يعيد نفسه.
لن توقف السلطة التنسيق الأمني، على الرغم من التصريح عن نيتها القيام بذلك، لإداركها أن وقف التنسيق الأمني يعني المواجهة مع إسرائيل. وعمليا لم يبق من اتفاق أوسلو سوى التنسيق الأمني. وعلى الرغم من جهود بذلت على مدار العشرين عاما الماضية لإضعاف حركة فتح، إلا أن الرئيس أبو مازن يعتبر الحركة وشبيبتها حصنه الأخير الذي يلجأ إليه، وقد أشار إلى ذلك في خطابه الأسبوع الماضي. وعلى الرغم من تصريحه المباشر، نزل الشباب الفلسطينيون للتظاهر من دون طلب من القيادة، ولكن الجميع يعرفون أن خيوط الشبيبه الفتحاوية ما زالت بيد الرئيس، وما زال هو رئيس حركة فتح ومن مؤسسيها، وهو من يعتقد بضرورة الحفاظ على المد الثوري للفصائل الفلسطينية، بالتوازي مع الحفاظ على منظمة التحرير.
ستحافظ السلطة على التنسيق الأمني مع إسرائيل، وعلى دعم المقاومة الشعبية السلمية معا، وهذه مهمة صعبة التحقيق في حالة انفراط الأمور. وستحرص السلطة على الحفاظ على وحدة الموقف الفلسطيني الرافض للصفقة بقوة، وستمنع أي فصيل أو قيادي فلسطيني من التواصل مع الولايات المتحدة أو إسرائيل للقبول بإملاءاتهما المشتركة. وستكون حركة فتح اللاعب الأكبر في الفترة المقبلة، كونها ما زالت اللاعب الأكبر على الأرض، وكون قيادتها في الصف الأول ستتضرر بدرجة كبيرة من الصفقة، باعتبار أن اتفاق أوسلو "طفل" حركة فتح، وانتهاؤه يعني خسارتها مشروعا راهنت عليه سياسيا كثيرا. وقد يعطي إضعاف الجانب السياسي الفرصة للجانب العسكري الذي ما زال يحتفظ بخياره على الطاولة، في ظل أصواتٍ في الحركة ما زالت تؤمن بالخيار المسلح.
تعلم إدارتا ترامب ونتنياهو أن ما تم عرضه على الفلسطينيين لا يلبّي أدنى طموحاتهم السياسية، وما هو معروضٌ عليهم ليس صفقةً بقدر ما هو تصفية لقضيتهم بقيمة 50 مليار دولار، لأن
مبادرة ترامب نتنياهو عاجزة، لعدة أسباب، في مقدمتها الرفض الفلسطيني، وغياب الإجماع الأميركي عليها، سيما من الحزب الديمقراطي الذي يعتقد أنها غير قابلة للتنفيذ، بالإضافة إلى غياب الإجماع الدولي، سيما الاتحاد الأوروبي الذي اكد "التزامه الصلب والموحد بحل دولتين قابل للتطبيق". كما ان الموقف الروسي رهن الموافقة عليها بالموافقة الفلسطينية والعربية.
هل تملك السلطة الوطنية الفلسطينية استراتيجية لمقاومة تنفيذ الصفقة الذي بدأ منذ فترة؟ يؤمل أن تملك استراتيجية، وليس تصريحات ووعودا، وقد رفعت تصريحات المسؤولين الفلسطينيين سقف التوقعات الشعبية، من خطاب الرئيس محمود عباس في اجتماع القيادة الفلسطينية، وكان المتوقع منه قلب الطاولة، لكن الخطاب أطفأ بماء بارد التوقعات الشعبية. وعباس يتبع سياسة النفس الطويل، وما زال يُعول على الحلول والطرق السلمية لحل الصراع، وما زال يستبعد اتخاذ قرار حل السلطة. السياسة الرسمية للسلطة الفلسطينية على مدار السنوات العشر الماضية هي سبب عجز الفلسطينيين عن اتخاذ قرارات مصيرية.
هل يمكن اتخاذ قرار حل السلطة الفلسطينية؟ ليس القرار هيناً يمكن اتخاذه بين ليلة وضحاها،
إلى ذلك، القيادة الفلسطينية مقبلة على فترة صعبة، في ظل رفضها الإملاءات الأميركية الإسرائيلية المشتركة. لم يعد التهديد الأميركي - الإسرائيلي مقتصرا على الشعب، بل الكل مهدّد الآن، شعباً وقيادة. والرئيس أبو مازن مدرك أنه شخصيا مهدد، وخطابه أخيرا، وزيارته ضريح ياسر عرفات، يدلان على إدراكه مستوى التهديد، وسقوط الرهانين، الأميركي والعربي.
وسيشكل الزمن عاملا حاسما في معرفة إلى أين تسير الأمور، ففي ظل الرفض الفلسطيني، تراهن جميع الأطراف على عامل الوقت. ويراهن الرئيس أبو مازن على خسارة نتنياهو الانتخابات الإسرائيلية الشهر المقبل (مارس/ آذار)، أو سجنه بسبب ملفات الفساد المرفوعة ضده. وكما يراهن أبو مازن على خسارة ترامب في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. ويعتقد أن رحيل أي منهما مكسب فلسطيني. وفي المقابل، يراهن نتنياهو وترامب على رحيل أبو
لن توقف السلطة التنسيق الأمني، على الرغم من التصريح عن نيتها القيام بذلك، لإداركها أن وقف التنسيق الأمني يعني المواجهة مع إسرائيل. وعمليا لم يبق من اتفاق أوسلو سوى التنسيق الأمني. وعلى الرغم من جهود بذلت على مدار العشرين عاما الماضية لإضعاف حركة فتح، إلا أن الرئيس أبو مازن يعتبر الحركة وشبيبتها حصنه الأخير الذي يلجأ إليه، وقد أشار إلى ذلك في خطابه الأسبوع الماضي. وعلى الرغم من تصريحه المباشر، نزل الشباب الفلسطينيون للتظاهر من دون طلب من القيادة، ولكن الجميع يعرفون أن خيوط الشبيبه الفتحاوية ما زالت بيد الرئيس، وما زال هو رئيس حركة فتح ومن مؤسسيها، وهو من يعتقد بضرورة الحفاظ على المد الثوري للفصائل الفلسطينية، بالتوازي مع الحفاظ على منظمة التحرير.
ستحافظ السلطة على التنسيق الأمني مع إسرائيل، وعلى دعم المقاومة الشعبية السلمية معا، وهذه مهمة صعبة التحقيق في حالة انفراط الأمور. وستحرص السلطة على الحفاظ على وحدة الموقف الفلسطيني الرافض للصفقة بقوة، وستمنع أي فصيل أو قيادي فلسطيني من التواصل مع الولايات المتحدة أو إسرائيل للقبول بإملاءاتهما المشتركة. وستكون حركة فتح اللاعب الأكبر في الفترة المقبلة، كونها ما زالت اللاعب الأكبر على الأرض، وكون قيادتها في الصف الأول ستتضرر بدرجة كبيرة من الصفقة، باعتبار أن اتفاق أوسلو "طفل" حركة فتح، وانتهاؤه يعني خسارتها مشروعا راهنت عليه سياسيا كثيرا. وقد يعطي إضعاف الجانب السياسي الفرصة للجانب العسكري الذي ما زال يحتفظ بخياره على الطاولة، في ظل أصواتٍ في الحركة ما زالت تؤمن بالخيار المسلح.