العفو التشريعي العام: حق أم جريمة؟

10 مارس 2016
رغم أنه أوّل إجراءثوري بعدالثورة،إلاّ أنّه معطّل لتجاذبات سياسيّةوإيديولوجية(Getty)
+ الخط -

خمس سنوات مرّت على صدور منشور العفو العام الذي يقضي بضرورة ردّ الاعتبار لضحايا الحقبة الاستبدادية، الذين تعرضوا للسجّن أو للتتبّع القضائي بكلّ أشكاله.


ورغم أنّ هذا المنشور كان أوّل إجراء ثوري بُعيد الثورة، إلاّ أنّه لا يزال معطّلاً في كثير من جوانبه مع خضوعه إلى تجاذبات سياسيّة وإيديولوجية أحياناً كثيرة زادت من تعقيد الملفّ!

لقد كان مطلب العفو العام على رأس مطالب "جبهة 18 أكتوبر" التي جمعت مختلف الأطياف السياسية المعارضة في زمن بن علي كما كان أهمّ مطالب الثورة والقصبة2.

هذا شبه الإجماع على القضيّة والذي كان قبل 14 يناير/ كانون الثاني الماضي، كان دافعاً لصدور أوّل منشور حكومي في الغرض بعد سقوط النظام، ولكن بمجرّد تحوّل الصراع السياسي القائم بين أنصار الثورة والديمقراطية في مقابل المنظومة القديمة إلى صراع هُوويّ قائم بين الإسلاميين وغيرهم ممّن تلبّسوا بستار الحداثة والعلمانية، انحرف النقاش السياسي واضطربت البوصلة لدى فئة واسعة من الطبقة السياسيّة، حتى صار بعض أنصار العفو العام بالأمس خصومه اليوم، بسبب العداء للإسلاميين!

ما هو ذنب الإسلاميين إذا كانوا أكبر ضحايا الدكتاتورية؟
هل إن منظومة الحقوق مرتبطة بقيمة الإنسان كإنسان قبل كل شيء؟ وهل تسقط الحقوق بسبب خلفيات المنتفعين بها؟

إنّ الخصومة السياسية المستعرة بنار الإيديولوجيا جعلت أكبر رافعي لواء الحقوق والحريات يتناقضون مع ما صدّعوا به رؤوسنا وشنفوا له أسماعنا سنين طوالاً، وتحوّل النضال الحقوقي معهم إلى تجارة على المقاس وحسب الطلب.

من المؤسف أنه وقعت أدلجة مطلب وطني يمثّل خطوة رئيسية في تحقيق العدالة الانتقالية، التي تتطلّب بدورها الاعتراف بحقّ الضحايا وردع الظالم ولو بشكل رمزي من أجل تكريس فكرة العدالة وبداية مرحلة جديدة خالية من الأحقاد والضغائن.

يمثّل هذا المطلب الذي يتجاوز التعويض المادي حجر أساس في تحقيق المصالحة الوطنية والمضي للمستقبل بنفوس مطمئنة إلى جانب تأمينه وحفظه للذاكرة الوطنية.

لا يمكن بداية مرحلة جديدة وقيام دولة العدل دون الاعتراف بحقّ المظلومين ومحاولة جبر ضررهم المعنوي والماديّ حسب ما تسمح به الظروف ليكونوا عضداً للدولة الجديدة، وداعماً لها، خاصّة وأنّ ضحايا الاستبداد من كلّ العائلات السياسيّة والمشارب الفكريّة.

تتالت الحكومات ومنها حكومة الترويكا التي ترأستها حركة النهضة، صاحبة أكبر نصيب من ضحايا الاستبداد، ومع ذلك لايزال الملف عالقاً، رغم الادعاءات بأنّ النهضة قدمت الخدمات الوافرة لمناضليها وسهّلت دخولهم للإدارة وسخّرت لهم أموالاً طائلة على حساب ميزانية الدولة وكاهل المواطن التونسي.

كل هذه الافتراءات تصدر عن نفس الجهات التي ساهمت في تعطيل الملفّ عبر الضغط التشويهي والتحريفي، هادفة للنيل من خصم سياسي تخشى نيل مناضليه حقوقهم واندماجهم في المنظومة الإنتاجية بما يوفر لهم حياة كريمة وقدرة على التفكير في صالح الوطن.

افتراءات يفنّدها اعتصام الصمود بالقصبة الذي تواصل على مدار 181 يوماً، وضمّ عدداً كبيراً من المنتفعين بالعفو العام وجلهم من التيار الإسلامي انتهى بهم الأمر إلى الطرد التعسّفي من المكان من قبل حكومة الترويكا.

ناهيك عن ارتفاع معدّل الوفيات الشهري لضحايا السجون والتعذيب النوفمبري بسبب الإهمال الصحي وغياب إمكانات العلاج.

في نفس الوقت نجح بعض طلبة اليسار في افتكاك حقّ استثنائي يلحقهم بالوظيفة العموميّة مؤخراً، بسبب ما سموّه الفرز الأمني المسلّط عليهم، وقد كان التلاعب بالقائمة والأسماء أحد أسباب الحراك الاجتماعي الأخير في ولاية القصرين.

تؤكّد قيادات حركة النهضة أنّ وطنيّتهم جعلتهم يقدّمون مصلحة البلاد على مصلحة مناضليهم وباقي الضحايا، إلاّ أنّ ذلك يخفي تقصيراً كبيراً تجاه الملف.

أمّا هيئة الحقيقة والكرامة فهي لا تزال إلى الآن تعقد ندوات لتعريف الضحيّة، ويبقى السؤال هل إنّها ستتعرّف على سبل تسوية الملفّ؟

من المعيب أن يتواصل مسلسل الظلم وهضم الحقوق تحت مسمّيات عدّة، خاصّة وأنّ من الضحايا من يقاوم الموت كلّ يوم ألف مرّة، موت ممزوج بتراخي الدولة وأكاذيب النّخب.

العدل أساس العمران والظلم مؤذن بالخراب.

(تونس)