الصراع على تملك المذاهب

31 يناير 2017
+ الخط -
في الماضي السحيق، شكّلت الأديان عنصر وحدةٍ وتماسكٍ للمجتمعات التي لم تصل إلى تنظيم سياسي حديث، فكان شيخ الطائفة هو المفتي والحاكم داخل الجماعة، وضابط خلافاتها الداخلية والخارجية، حيث يحتكم إليه الناس، كلما برزت أمامهم مشكلة. لكن تطور المجتمعات وتوسعها نتج عنه تضاربٌ في المصالح، فساهمت كل تلك الأمور، مجتمعةً أو متفرقة، في نسف السكون الاجتماعي، وتحفيز التدافع على الخيرات العامة، بما أدى إلى تغييرٍ جذري في طبيعة العلاقات الاجتماعية. خصوصاً، بعد مأسسة شؤون الناس وولادة الدولة القومية، فقد أخفقت بعض الدول في الانتقال من خانة الحكم الفئوي إلى دولة المواطنة.
يرمي بعض المفكرين الغربيين التهمة على الحداثة، وعلى العقلانية، وتعاظمت نتيجة انتشار العلوم الطبيعية، مع تقدم الدولة القومية في أوروبا، كونها شكّلت حالة رائدة. من هؤلاء، زيغموند بومان. ومن المفكرين العرب المعاصرين، طه عبد الرحمن، صاحب كتاب "روح الدين"، حيث قدم الكاتبان نقداً لاذعاً للحداثة ومنتجاتها، باعتبار المجتمع البشري فقد عذريته ونقاوته، حينما وقع فريسة صراعاتها المنفلتة من عقال الأخلاق.
بالعودة إلى الموضوع الأساسي، مع ازدياد احتكاك الناس بالأمور المستجدّة في الحياة، وبحثهم الدائم عن "الطمأنينة" التي تجعل من سلوكهم ومواقفهم مطابقةً للتعاليم الدينية، وهي إحدى أهم مزايا الأديان، لكونها تجيب عما بعد الحياة، أو تخفّف من وطأة الموت توسع الفقه مع اتساع دور الفقهاء. ولدت عن هذا التوسع مذاهب مسيسة متعدّدة داخل الأديان الكبرى. ومع مرور الوقت، كبر التنافس بين المذاهب، فأصبح لكل مذهبٍ قيمه الخاصة. في بعض المذاهب، انشطرت المدارس الفقهية إلى تياراتٍ سياسيةٍ متصارعة، وأضحى للفقيه مكانة ورمزية كبيرة، جعلت منه قادراً على مزاحمة الدولة الوطنية على سلطاتها، بل يفوقها أهميةً ومنزلةً في بعض الدول، كما حالة إيران بعد الثورة، حيث الصراع بين القوى السياسية لا يبرح يستجدي
الاطمئنان لدور الفقيه ومواقفه، في حين تبقى القوى المناهضة له، ولدوره المتجاوز سلطة الدولة خارج المنافسة. لكن، في المجمل، أوجد التوسع في مسؤوليات الفقيه، والنهم المتعاظم للتأثير والاستئثار بالخيرات العامة، طلباً في مزيدٍ من النفوذ على الجمهور العام؛ ليوجِد بيئةً تنافسيةً وحالةً صراعية، ليس بين الأديان فقط، بل داخل المذهب الواحد وفقهائه أيضاً، وهي، من حيث الشكل والمضمون، لا تختلف عن الصراعات السياسية الصريحة، إلا بتسترها بعباءة "حماية العقيدة".
فكما هو جلي، ولّدت مساعي الاستحواذ على المذاهب الدينية، واحتكار تعريفها الجمهور العام، صراعاتٍ غير منتهية. على عكس ما تدّعيه النظريات السيسيولوجية الحديثة، تلك التي روّجت أن التواصل بين المختلفين، والحوار المفتوح بين الجماعات العقلانية، سوف يهزم عقلية الصراع، ويضع مكانها أفراداً يقيسون الأمور بمقياس الكسب والخسارة، أي إن هذه العقلانية المتولدة عن الحوار والحرية سوف تؤدي، لا محالة، إلى إيجاد أفعال ومواقف وتصرفات نابعة من ميزان العقل، في حين إن صعود اليمين الشعبوي في أميركا وأوروبا ليس إلا دليلاً إضافياً على أن صعود الشعبوية السياسية ليس له صلة بالتنوير والعقلانية والحرية.
في هذا المقام، أجدني ميالاً أكثر إلى قراءة الفيلسوف البريطاني، توماس هوبز، أن محدودية الموارد والبحث الدؤوب عن التملك، والقهر المنبثق عن جشع السيطرة والاستئثار بالخيرات العامة، سوف يقود إلى "صراع الكل ضد الكل"، وإن ادّعاء تمثيل مصالح الناس مستمرٌّ ما استمر وجود الإنسان على هذه البسيطة، كما ليس له علاقة بالعقلانية. تتمثل المشكلة، بالنسبة لنا، في استغفال الجمهور وجرّه إلى صراعاتٍ ليس لها علاقة بمصالحه الفردية، ولا الوطنية، وغرسه في مشكلات ونزاعات خارجية عبثية، عبر خطاباتٍ غرائزيةٍ شعبوية، وهذا ما يستغله المتصارعون على احتكار تمثيل المذاهب الدينية في الوطن العربي، في الوقت الحالي، حيث الجميع مستنفرٌ للدفاع عن وجود "الطائفة/ المذهب".
أزمة "الهوية" التي تخلقها التيارات الدينية المسيسة، أو النهم الظاهر للعيان في إعادة تعريف المذاهب، من خلال العودة إلى قراءة التاريخ، وتفاصيل سلوكيات مواقف الشخصيات التاريخية المقدسة التي كان لها دور محوري في تأسيس أرضية هذه المذاهب، هي إنما تبحث، أولاً وأخيراً، عن استقطاب جمهورٍ أكبر، كما تبحث لنفسها عن موطئ قدم على رقعة صراع المصالح، والشيخ الشيعي، ياسر الحبيب، ومن يقف خلفه، نموذج.
ستبقى الصراعات القومية الحالية ما بقيت الأمم تتنافس على الموارد والنفوذ، وليس للمذاهب الدينية وبقائها علاقة بها، وما ربطها بالمذهب وجعل الناس تنهمك في تفاصيلها، إلا وسيلة لصيد ضحايا جدد، راغبين في التحول إلى حطبٍ في معارك الكبار.
59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"