السقوط الثاني.... نخب متعالية وشعب تم تجهيله عمداً
النخبة والنشطاء الذين لطالما تحدثوا عن الحرية، وأحقية كل الأطراف والأيديولوجيات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، في الدخول إلى الحياة السياسية بشكل علني وأن يكون الحكم للشعب باختيار ما يراه مناسباً، كل تلك الآراء والأفكار تبخّرت، وذهبت أدراج الرياح مع أول اختبار حقيقي واختيار حرّ من الشعب المصري للإخوان المسلمين بأغلبية في مجلس الشعب بجانب منصب رئيس الجمهورية. تلك النخب التي لم ترغب في أن توضع الخلافات مع الإخوان المسلمين في مكانها الحقيقي كخلاف سياسي، وأن يظل المجلس العسكري بعيداً، كانت هي من استدعته للمشهد مرة أخرى، وأيّدت انقلابه العسكري.
ليأتي السقوط الثاني مع ظهور الفنان والمقاول المصري محمد علي، والذي كشف في عدة مقاطع فيديو جزءاً من فساد المؤسسة العسكرية من إهدار المال العام في قطاع المقاولات فقط. المقاطع التي جذبت قطاعاً كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الشارع المصري جذبت الكثير من عموم الشعب لمتابعة صراع "عنتر ولبلب".
اللهجة واللغة اللتان استخدمهما محمد علي طبقاً لمستواه التعليمي والمنطقة التي تربى وعاش فيها، هما ما قرّبه من البسطاء من الشعب، وجعل استقبالها له سهلاً. كلمات وألفاظ ولغة جسد تجدها في كل شوارع المحروسة الممزوجة بعرق العاملين والغلابة، بعيداً عن أبراج المثقفين العاجية.
هؤلاء النخبة والنشطاء لم يدركوا بعد حجم "الشيطنة" التي حملها النظام الانقلابي تجاه كل من قام بالثورة، واتهامات بالعمالة والخيانة وإسقاط الدولة، الحملة ضدهم كانت وما زالت مستمرة، وأي تحرك من قبلهم لن يحظى بقبول في الشارع المصري بسبب تلك الحملات، هذا إن ترك لهم النظام القمعي الحالي مجالاً، وبدلاً من استقبال تلك المقاطع المسجّلة واستغلالها ضد النظام الانقلابي، خاصة أنها تحمل ميزة مهمة كونها خرجت من أحد العاملين مع المؤسسة العسكرية طيلة 15 سنة كاملة. كان التعالي والفوقية هما نجما ردود الأفعال.
لم ينكر محمد علي أنه فاسد وأنه تعامل مع مؤسسة فاسدة، لم يدّع الشرف وطهارة اليد، ولهذا لم يكن من المنطقي بمكان أن يهاجمه أحد النشطاء المشاهير وهو وائل عباس لتنضم إليه أسماء محفوظ، بعمل مقارنة غير منطقية بين ما عاناه كثير منهم من الاعتقال والتضييق والمراقبة، وبين ذلك المقاول الهارب بماله إلى خارج البلاد؛ إلى إسبانيا، ويحيا حياة الترف.
أو أن يتحدث أستاذ العلوم السياسية د. حسن نافعة عن تصدّر المشهد السياسي من قبل مقاول شاب محدود التعليم والخبرة السياسية. أو أن يسخر منه د. حسن بدراوي الطبيب ويصف لغته بالتدني وأسلوبه بالسخيف المتطاول؛ الأكاديمي صاحب المؤلفات العديدة في تطوير التعليم والتنمية، والذي كان رئيساً للجنة التعليم في مجلس الشعب الذي انتخب عام 2000، متناسياً أن مجهوداته لم تثمر عن شيء ذي جدوى، ولم تتحسّن المنظومة التعليمية في مصر حينما كان في موقع المسؤولية، ببساطة لأن الوعي هو عدو الديكتاتور الأول، ولهذا إن كان ولا بد من نصب المشانق فهي بالتأكيد للنظام الذي خرج من رحمه دكتور حسام بدراوي، ومن هم على شاكلته، وكانوا سبباً لجهل وتدنّي أسلوب محمد علي.
هؤلاء الذين عابوا على جماعة الإخوان المسلمين العمل بمبدأ السمع والطاعة، لم يدركوا أنهم أيضاً يريدون من الشعب السمع والطاعة، هم المثقفون العالمون ببواطن الأمور، الوحيدون القادرون على الاختيار الصائب السليم، ولهذا رفضوا اختيار الشعب في خمسة انتخابات مستحقة، وتم استخدامهم كغطاء ليكتسب الانقلاب العسكري صفة الشرعية وأنه مؤيّد من قبل من قاموا سابقاً بالثورة وبالجماهير التي تم حشدها بالتدليس والكذب.
محمد علي "محدود التعليم" أحدث زلزالاً لم يستطع السيسي الصمت تجاهه، رافضاً نصح القيادات له بالتجاهل، هو نفسه السيسي ونظامه من منعا هؤلاء المتعالين من الندوات، ومنعا مؤلفات، واحتجزا البعض منهم في صالات السفر للتفتيش، ولم تفلح معارضتهم المدجنة، ولا تغريداتهم التي تحمل من التهاون وعرض الخدمات أكثر مما تحمله من معارضة حقيقية لم تحرك للسيسي ساكناً.
أما عن التساؤلات التي صاحبت محمد علي، من نوعية لماذا هو؟ ولماذا الآن؟ وهل وراءه جهة ما؟ من هي؟ وهل هدفها إسقاط النظام والدفع بوجه جديد من داخل المؤسسة مرة أخرى؟ كل تلك الأسئلة لا تعنيني فالأيام كاشفة وهي من ستجيب عن تلك التساؤلات. ويكفيني من الأمر ذلك الحجر الذي حرك المياه الراكدة مرة أخرى.