29 نوفمبر 2016
الربيع العربي بعد خمس سنوات
مرّت خمس سنوات على شرارة انطلاق الثورات العربية، فماذا جنت الأمة منها؟ وهل بالفعل تحولت من ربيع مثمر إلى خريف مفزع؟ في البداية، وقبل الإجابة، لو نلتقط صورتين جامدتين للوطن العربي، في نهايتي عامي 2010 و2015، تُرى ما الذي سوف يظهر في كل منهما، وما الملامح التي سوف تميّزهما؟
الصورة الأولى شعوب ساكنة، تمجد في الديكتاتوريات الحاكمة، لا يتجاوز تفكيرها وجبة غداء ومباراة كرة قدم، وإن فكرت وعارضت، فعلى استحياء، وفق حدود الدائرة المرسومة والخطوط الحمراء الواضحة والكثيرة. وتظهر في الصورة خزائن ممتلئة بأموال الشعب الجائع الذي يموت في صمت، بالأمراض التي سببتها صفقات استيراد المبيدات والسلع المسرطنة، وفساد ينخر في جسد الأمة، لا يترك مجالاً إلى طرقه، وترك بصمته عليه. وفي الصورة كثيرون لا يجدون علاجاً، ولا أدنى رعاية صحية، والتي دائماً ما يحظى بها المقربون من مراكز الحكم، كالفنانين والإعلاميين والقضاة. وفي خلفية الصورة، جيوش يتغنى الشعب بوطنيتها وأمجادها، ولا يرى أطماعها وخيانتها، لأنها خافتة خلف ألوان شديدة الصخب، ففي الصدارة منها أصوات وأبواق إعلامية، ينفق الشعب عليها، لترتد أمواله عليه بالتضليل والتدليس، عبر برامج خادعة، تحصل على أوامرها من داخل مباني المخابرات، ومن مكاتب العسكر.
تبدو الصورة في عام 2010 صامتة ساكنة، على الرغم من الصخب المصطنع، ويتجهز فيها كل زعيم لتوريث الحكم لأحد أفراد العائلة، أو لأحد أعمدة النظام، لتستمر المسيرة المقدسة، ولتخرج الأجيال تلو الأجيال، لا تعرف لها رباً سوى الحاكم الملهم الذي إذا خط خطوطاً عشوائية، فذلك دليل على بعد نظره وسلامة رؤيته، فهو الرئيس المؤمن الملهم حامي الحمى وقاهر الأعداء. تبدو الصورة ساكنة وجميلة لمن لا يجهد عقله بالتفكير، ولا بصره بالنظر العميق.
الصورة الثانية نهاية عام 2015. وطن ممزق (هكذا يبدو) تسيل دماؤه في سورية واليمن وليبيا ومصر. وفي قلب الصورة، شعوب ثائرة اشتمت رائحة الحرية، فهانت عليها رائحة الدم الغالي الذي تقدمه كل يوم، وزالت الرتوش عن الصورة الأولى، ليظهر العسكر الذي لا يحمي الحدود، بل يحمي مصالحه وطموحاته الرخيصة، عبر خيوط محددة المعالم، لا تحتاج لارتداء نظارة لرؤيتها، يتحرّك من خلالها قضاة وإعلام وشيوخ وقساوسة. الكل بانت معالمه، وظهرت للعيان دسائسه وخداعه. تلك الصورة عندما تراها، تسمع صوتاً عالياً ينادي بشيء غريب، لم يعتد عليه العرب منذ عقود. إنه صوت الحرية. ولكن، هناك، في أعلى المشهد، جثث الآلاف ترفرف، وإن تركت ألماً شديداً لفراقها، وترى السجون، وقد امتلأت بمناضلي الوطن، ومثقفيه وشبابه ونخبه، تاركين أطفالاً يبحثون عن الأب والأخ، فلا يجدوه، لكنهم، في الوقت نفسه، يتربون على معاني الصمود، ويعرفون ثمن الحرية.
دفعت الأمة ثمناً باهظاً لاستيقاظها، وسعيها نحو النهضة، ولم يكن هذا بسبب الخطأ في الثورات، كما يحاول أن يروج بعضهم. ولكن، من يتحمل تلك الفاتورة هم الفاسدون الذين قاوموا الشعب الأعزل، بأسلحة دفع ثمنها الشعب الفقير، لترتد إليه رصاصات في قلبه، والأنظمة التي خافت على عروشها رصدت أموالها لوأد الحلم، ولم ولن تستطيع.
لم يخطئ الشعب، عندما طالب بحريته، ولم يتجاوز عندما شعر بكرامته، ولم يُذنب عندما اختار رؤساءه بمحض إرادته. ولم يجرم عندما تظاهر واعتصم طلباً لشرعيته، لكن العسكر، ومن سار في ركابهم، ومن دعمهم بالمال والسلاح والمواقف السياسية البراغماتية، أخطأوا وتجاوزوا وأذنبوا وأجرموا، وتسببوا في تلك الآلام التي تحياها الشعوب، عبر انقلاباتهم وخيانتهم شعوبهم، فلا يجب أن تلام الضحية، ويستقبل المنقلب الخائن استقبال الفاتحين، تغدق عليه الأموال، وتفرش له السجاجيد الحمر.
وإذا قلنا ماذا جنت أمتنا من الثورات العربية؟ لكانت الإجابة جنت جيلاً تكسرت عنده المقدسات الواهية، فلا يصدق أن العسكر وطنيون، طالما رآهم يستولون على الحكم، بعقلية اللص المتغطرس المنقلب الدموي. ولا تؤثر فيه أكذوبة القضاء الشامخ، طالما رأى قضاء منبطحاً، يحاكم ويصدر الإعدامات، وفق تليفونات تأتيه، وإشارات يفهمها، من أجل أن يرضى عنه صاحب السلطان من يملك الذهب. ولا يقدّر شيخاً أو قسيساً حلل الدماء، وشجع عليها، جيلاً انكشفت عنده الصور الباهتة، فأصبحت واضحةً بينة، ليظهر من يحرك العرائس بنفسه على المسرح، وتحطمت على يديه أصنام العبودية التي تقربت إليها أجيال سابقة كثيرة، جيل يعيد كتابة التاريخ والجغرافيا أيضاً.
لم يكن الربيع العربي شراً على الأجيال تجنبه، لكنه فتح الجرح الذي امتلأ صديداً عفناً من فساد حكام وعسكر وقضاة ورجال دين ومال. ذلك كله كان سيقضي على الأمة للأبد، فإذا بالثورة تفتح الجرح وتنظفه، على الرغم مما يسببه ذلك من ألم، إلا أنه سيعقبه شفاء والتئام، وعودة الشباب للجسد المريض.
الصورة الأولى شعوب ساكنة، تمجد في الديكتاتوريات الحاكمة، لا يتجاوز تفكيرها وجبة غداء ومباراة كرة قدم، وإن فكرت وعارضت، فعلى استحياء، وفق حدود الدائرة المرسومة والخطوط الحمراء الواضحة والكثيرة. وتظهر في الصورة خزائن ممتلئة بأموال الشعب الجائع الذي يموت في صمت، بالأمراض التي سببتها صفقات استيراد المبيدات والسلع المسرطنة، وفساد ينخر في جسد الأمة، لا يترك مجالاً إلى طرقه، وترك بصمته عليه. وفي الصورة كثيرون لا يجدون علاجاً، ولا أدنى رعاية صحية، والتي دائماً ما يحظى بها المقربون من مراكز الحكم، كالفنانين والإعلاميين والقضاة. وفي خلفية الصورة، جيوش يتغنى الشعب بوطنيتها وأمجادها، ولا يرى أطماعها وخيانتها، لأنها خافتة خلف ألوان شديدة الصخب، ففي الصدارة منها أصوات وأبواق إعلامية، ينفق الشعب عليها، لترتد أمواله عليه بالتضليل والتدليس، عبر برامج خادعة، تحصل على أوامرها من داخل مباني المخابرات، ومن مكاتب العسكر.
تبدو الصورة في عام 2010 صامتة ساكنة، على الرغم من الصخب المصطنع، ويتجهز فيها كل زعيم لتوريث الحكم لأحد أفراد العائلة، أو لأحد أعمدة النظام، لتستمر المسيرة المقدسة، ولتخرج الأجيال تلو الأجيال، لا تعرف لها رباً سوى الحاكم الملهم الذي إذا خط خطوطاً عشوائية، فذلك دليل على بعد نظره وسلامة رؤيته، فهو الرئيس المؤمن الملهم حامي الحمى وقاهر الأعداء. تبدو الصورة ساكنة وجميلة لمن لا يجهد عقله بالتفكير، ولا بصره بالنظر العميق.
الصورة الثانية نهاية عام 2015. وطن ممزق (هكذا يبدو) تسيل دماؤه في سورية واليمن وليبيا ومصر. وفي قلب الصورة، شعوب ثائرة اشتمت رائحة الحرية، فهانت عليها رائحة الدم الغالي الذي تقدمه كل يوم، وزالت الرتوش عن الصورة الأولى، ليظهر العسكر الذي لا يحمي الحدود، بل يحمي مصالحه وطموحاته الرخيصة، عبر خيوط محددة المعالم، لا تحتاج لارتداء نظارة لرؤيتها، يتحرّك من خلالها قضاة وإعلام وشيوخ وقساوسة. الكل بانت معالمه، وظهرت للعيان دسائسه وخداعه. تلك الصورة عندما تراها، تسمع صوتاً عالياً ينادي بشيء غريب، لم يعتد عليه العرب منذ عقود. إنه صوت الحرية. ولكن، هناك، في أعلى المشهد، جثث الآلاف ترفرف، وإن تركت ألماً شديداً لفراقها، وترى السجون، وقد امتلأت بمناضلي الوطن، ومثقفيه وشبابه ونخبه، تاركين أطفالاً يبحثون عن الأب والأخ، فلا يجدوه، لكنهم، في الوقت نفسه، يتربون على معاني الصمود، ويعرفون ثمن الحرية.
دفعت الأمة ثمناً باهظاً لاستيقاظها، وسعيها نحو النهضة، ولم يكن هذا بسبب الخطأ في الثورات، كما يحاول أن يروج بعضهم. ولكن، من يتحمل تلك الفاتورة هم الفاسدون الذين قاوموا الشعب الأعزل، بأسلحة دفع ثمنها الشعب الفقير، لترتد إليه رصاصات في قلبه، والأنظمة التي خافت على عروشها رصدت أموالها لوأد الحلم، ولم ولن تستطيع.
لم يخطئ الشعب، عندما طالب بحريته، ولم يتجاوز عندما شعر بكرامته، ولم يُذنب عندما اختار رؤساءه بمحض إرادته. ولم يجرم عندما تظاهر واعتصم طلباً لشرعيته، لكن العسكر، ومن سار في ركابهم، ومن دعمهم بالمال والسلاح والمواقف السياسية البراغماتية، أخطأوا وتجاوزوا وأذنبوا وأجرموا، وتسببوا في تلك الآلام التي تحياها الشعوب، عبر انقلاباتهم وخيانتهم شعوبهم، فلا يجب أن تلام الضحية، ويستقبل المنقلب الخائن استقبال الفاتحين، تغدق عليه الأموال، وتفرش له السجاجيد الحمر.
وإذا قلنا ماذا جنت أمتنا من الثورات العربية؟ لكانت الإجابة جنت جيلاً تكسرت عنده المقدسات الواهية، فلا يصدق أن العسكر وطنيون، طالما رآهم يستولون على الحكم، بعقلية اللص المتغطرس المنقلب الدموي. ولا تؤثر فيه أكذوبة القضاء الشامخ، طالما رأى قضاء منبطحاً، يحاكم ويصدر الإعدامات، وفق تليفونات تأتيه، وإشارات يفهمها، من أجل أن يرضى عنه صاحب السلطان من يملك الذهب. ولا يقدّر شيخاً أو قسيساً حلل الدماء، وشجع عليها، جيلاً انكشفت عنده الصور الباهتة، فأصبحت واضحةً بينة، ليظهر من يحرك العرائس بنفسه على المسرح، وتحطمت على يديه أصنام العبودية التي تقربت إليها أجيال سابقة كثيرة، جيل يعيد كتابة التاريخ والجغرافيا أيضاً.
لم يكن الربيع العربي شراً على الأجيال تجنبه، لكنه فتح الجرح الذي امتلأ صديداً عفناً من فساد حكام وعسكر وقضاة ورجال دين ومال. ذلك كله كان سيقضي على الأمة للأبد، فإذا بالثورة تفتح الجرح وتنظفه، على الرغم مما يسببه ذلك من ألم، إلا أنه سيعقبه شفاء والتئام، وعودة الشباب للجسد المريض.