12 نوفمبر 2016
القضاء فجيعة مصر الكبرى
لعل الحديث عن الوضع الحالي في مصر يتلخص في أحرفٍ ثلاثة، تكمن في ألم طاول الجميع، ألم من مورست ضده كل أنواع الظلم والاضطهاد بسبب ما يؤمن به من أفكار، وما يتخذه من مبادئ إنسانية، دعت إليها كبرى الثورات التحرّرية في العالم، فالألم لا تُنكره العين، ولا تصم عنه الآذان، بل أصبح واقعاً ملموساً، تؤكده القصص اليومية الحزينة عن عشرات الآلاف من المعتقلين وأسرهم الذين يبيتون الليالي في العراء، من أجل دقائق معدودة، قد لا يفوزون بها للقاء الأب أو الابن أو الابنة، ألم نطالعه من قصص القتل تحت التعذيب، لم يفرق بين نسيج الوطن.
ولكن أكبر فجيعةٍ أصابت مصر منذ ثورة 25 يناير، في العام 2011 ، تكمن في انعدام الثقة في العدالة وضياعها، فهناك ألم يؤرّق كل عاشقٍ لتراب مصر، كيف وصل حال القضاء بها إلى درجة المشاركة في جريمة حبس الوطن وسقوط هيبته، بل والقيام بدور البطولة في تلك الجريمة، بتكييف ما لا يمكن تكييفه من نصوصٍ قانونيةٍ، لنزع حق أصيل من حقوق الإنسان، وهو حق الحرية لنخبة الأمة وشبابها.
هل يتذكّر القارئ دور المحكمة الدستورية ما بعد الثورة؟ كان لها دور فاعل في وأد الثورة بكل مخرجاتها، وكانت تلقي بالأحكام المتوافقة مع رغبات قيادة المجلس العسكري، وليس أدلّ على ذلك من تهديد رئيس الوزراء، كمال الجنزوري، رئيسَ أول مجلس شعب منتخب بعد الثورة، محمد سعيد الكتاتني، بأن قرار حل المجلس في الأدراج. وصدق في تهديده، كما رأى الجميع وسمعوا، فكان أسرع قرار حل لمجلس شعبٍ شهدته مصر، وكيف كانت هيئتها في حالة انعقاد دائم، وكأنها في حالة حربٍ وسباق مع الزمن لهدم ما تبنيه الثورة. في المقابل، تقلص
هذا الدور، وبهتت صورته أمام ما يحدث من خرقٍ يومي فاضح للدستور الذي وضعه العسكر أنفسهم، فتجد الكمون والتأجيل للبت في قوانين تخالف ظاهر الدستور. وها هو قانون التظاهر المشوب بعدم الدستورية، والصادر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، ما زالت جلسات البحث في مدى دستوريته مستمرة منذ نحو ثلاث سنوات، بل إنهم باركوا وقف العمل بالدستور، وهم من أقسموا على حمايته.
ولن تنسى مصر قضية التمويل الأجنبي، والتي اتهم فيها مصريون وأجانب وتم حظر سفرهم. وفي أثناء نظر القضية في نهاية فبراير/ شباط 2012، تم رفع الحظر عن سفر الأجانب ليغادر المتهمون الأجانب، وهم تسعة أميركيين وثمانية من جنسيات أخرى، أرض مصر على متن طائرة أميركية خاصة، كانت تنتظر في مطار القاهرة، قبل قرار رفع حظر السفر، مما أثار الرأي العام في ذلك الحين. ويلقي ذلك كله بظلال من الشك على الاستقلالية، ويؤكّد حالة التداخل بين العسكر والقضاء.
ولم يكن غائباً عن الجميع بعد ثورة يناير 2011 أن القضاء المصري هو رأس الحربة في فريق الثورة المضادة، ولا نحتاج إلى كثيرٍ من سرد الأدلة، فقد كانت المؤتمرات الصحافية المستمرة بعد الثورة لرئيس نادي القضاة تعجّ بالتهديدات للثوار وللمجالس التشريعية، بل وللرئيس المنتخب، وقد تكفي المقارنة بين منح البراءة لجميع رموز النظام الفاسد، وكذلك قتلة المتظاهرين، في حين تصدر الأحكام بعد الانقلاب بالجملة على كل من انتخبه الشعب، بداية من الرئيس الذي لم يمكث في الحكم سوى عام، كان فيه رئيساً شرفياً لا يملك أية سلطةٍ على مفاصل الدولة العميقة، مروراً بحبس كل أعضاء مجلس الشعب والشورى المنتمين لحزب الحرية والعدالة، أو الصمت على جريمة ميدان رابعة العدوية، المذبحة التي صمت عليها هذا القضاء، بل حاكم كل من نجا منها.
لا حاجة لسرد مزيد من الدلائل على أن القضاء من أهم أدوات الدكتاتور في مصر، وهذه دعوة إلى الباحثين، لإعداد موسوعات قانونية، تتناول أعاجيب الأحكام في زمن العسكر. لذا، من الطبيعي أن يتبارى المحللون للبحث عن مغزى قرار قضائي، رفع اسم مرشح الرئاسة الخاسر أحمد شفيق من قائمة ترقب الوصول، وربطها بزيارة مسؤول إماراتي إلى مصر، أو الربط بين إلغاء حكم الإعدام على الرئيس، محمد مرسي، بتصريحات المشير حسين طنطاوي في ميدان التحرير الرافضة إعدام أبناء الوطن.
وأحياناً، يدور تساؤل عم يدفع القاضي إلى تنفيذ أحلام الديكتاتور؟ وكيف يقبل أن يظهر بمظهر المحلل لظلم الطاغية؟ وكيف ينام قرير العين، بعدما حنث بقسم القضاء في ظل عالم مفتوح ينقل ما يحدث، ويتندر به، كيف تم حبس طبيبةٍ من أجل دبوس تضعه على ملابسها؟ وكيف سجن طفل لحمله مسطرة؟ وكيف وقف نائب الشعب الثائر، محمد البلتاجي، يشكو تعذيبه، فيصمت القاضي، ولا يحقق في شكواه؟ وكيف أصبحت الأحكام القضائية محل تحليل سياسي، ووفقاً لتكهنات ما يحدث في أروقة السياسة وكواليسها؟ ترى، هل يتعرّض القضاء المصري لمغرياتٍ تكمن في ذهب المعز المتدفق في زمن المجاعة، أم عصاه من خلال ممارسة أساليب مخابرات صفوت الشريف وصلاح نصر في الستينيات من القرن الفائت؟
لا يحتاج الأمر إلى كثير من الذكاء أو العمق في التحليل، لمعرفة أن أي ديكتاتور لا بد من أن يطمئن من وجود أدوات مهمةٍ في جعبته، حتى يستقرّ في حكمه، فلن يستطيع أن يبطش ويعذب من يعارضه من دون شرطة وجيش يسبح بحمده، ولن يجرؤ أن يلقي بالترّهات والنظرة السطحية البلهاء من دون جهاز إعلامي، يوجه مركزياً لتشويه الحقائق وتزييفها، ولكن ذلك كله يحتاج إلى من يتغاضى عن تجاوز الدستور، ويبارك الاستهانة بالقانون، فلا حكم مستبداً بلا قضاء يزيّن (ويشرعن) باطله، وإذا فقد الشعب الشعور بالعدالة، وهذا ما نلحظه حالياً، فالبديل المتوقع هو التحول إلى شريعة الغاب، وهذا كفيل بهدم الدول، فضلاً عن أشباهها.
ولكن أكبر فجيعةٍ أصابت مصر منذ ثورة 25 يناير، في العام 2011 ، تكمن في انعدام الثقة في العدالة وضياعها، فهناك ألم يؤرّق كل عاشقٍ لتراب مصر، كيف وصل حال القضاء بها إلى درجة المشاركة في جريمة حبس الوطن وسقوط هيبته، بل والقيام بدور البطولة في تلك الجريمة، بتكييف ما لا يمكن تكييفه من نصوصٍ قانونيةٍ، لنزع حق أصيل من حقوق الإنسان، وهو حق الحرية لنخبة الأمة وشبابها.
هل يتذكّر القارئ دور المحكمة الدستورية ما بعد الثورة؟ كان لها دور فاعل في وأد الثورة بكل مخرجاتها، وكانت تلقي بالأحكام المتوافقة مع رغبات قيادة المجلس العسكري، وليس أدلّ على ذلك من تهديد رئيس الوزراء، كمال الجنزوري، رئيسَ أول مجلس شعب منتخب بعد الثورة، محمد سعيد الكتاتني، بأن قرار حل المجلس في الأدراج. وصدق في تهديده، كما رأى الجميع وسمعوا، فكان أسرع قرار حل لمجلس شعبٍ شهدته مصر، وكيف كانت هيئتها في حالة انعقاد دائم، وكأنها في حالة حربٍ وسباق مع الزمن لهدم ما تبنيه الثورة. في المقابل، تقلص
ولن تنسى مصر قضية التمويل الأجنبي، والتي اتهم فيها مصريون وأجانب وتم حظر سفرهم. وفي أثناء نظر القضية في نهاية فبراير/ شباط 2012، تم رفع الحظر عن سفر الأجانب ليغادر المتهمون الأجانب، وهم تسعة أميركيين وثمانية من جنسيات أخرى، أرض مصر على متن طائرة أميركية خاصة، كانت تنتظر في مطار القاهرة، قبل قرار رفع حظر السفر، مما أثار الرأي العام في ذلك الحين. ويلقي ذلك كله بظلال من الشك على الاستقلالية، ويؤكّد حالة التداخل بين العسكر والقضاء.
ولم يكن غائباً عن الجميع بعد ثورة يناير 2011 أن القضاء المصري هو رأس الحربة في فريق الثورة المضادة، ولا نحتاج إلى كثيرٍ من سرد الأدلة، فقد كانت المؤتمرات الصحافية المستمرة بعد الثورة لرئيس نادي القضاة تعجّ بالتهديدات للثوار وللمجالس التشريعية، بل وللرئيس المنتخب، وقد تكفي المقارنة بين منح البراءة لجميع رموز النظام الفاسد، وكذلك قتلة المتظاهرين، في حين تصدر الأحكام بعد الانقلاب بالجملة على كل من انتخبه الشعب، بداية من الرئيس الذي لم يمكث في الحكم سوى عام، كان فيه رئيساً شرفياً لا يملك أية سلطةٍ على مفاصل الدولة العميقة، مروراً بحبس كل أعضاء مجلس الشعب والشورى المنتمين لحزب الحرية والعدالة، أو الصمت على جريمة ميدان رابعة العدوية، المذبحة التي صمت عليها هذا القضاء، بل حاكم كل من نجا منها.
لا حاجة لسرد مزيد من الدلائل على أن القضاء من أهم أدوات الدكتاتور في مصر، وهذه دعوة إلى الباحثين، لإعداد موسوعات قانونية، تتناول أعاجيب الأحكام في زمن العسكر. لذا، من الطبيعي أن يتبارى المحللون للبحث عن مغزى قرار قضائي، رفع اسم مرشح الرئاسة الخاسر أحمد شفيق من قائمة ترقب الوصول، وربطها بزيارة مسؤول إماراتي إلى مصر، أو الربط بين إلغاء حكم الإعدام على الرئيس، محمد مرسي، بتصريحات المشير حسين طنطاوي في ميدان التحرير الرافضة إعدام أبناء الوطن.
وأحياناً، يدور تساؤل عم يدفع القاضي إلى تنفيذ أحلام الديكتاتور؟ وكيف يقبل أن يظهر بمظهر المحلل لظلم الطاغية؟ وكيف ينام قرير العين، بعدما حنث بقسم القضاء في ظل عالم مفتوح ينقل ما يحدث، ويتندر به، كيف تم حبس طبيبةٍ من أجل دبوس تضعه على ملابسها؟ وكيف سجن طفل لحمله مسطرة؟ وكيف وقف نائب الشعب الثائر، محمد البلتاجي، يشكو تعذيبه، فيصمت القاضي، ولا يحقق في شكواه؟ وكيف أصبحت الأحكام القضائية محل تحليل سياسي، ووفقاً لتكهنات ما يحدث في أروقة السياسة وكواليسها؟ ترى، هل يتعرّض القضاء المصري لمغرياتٍ تكمن في ذهب المعز المتدفق في زمن المجاعة، أم عصاه من خلال ممارسة أساليب مخابرات صفوت الشريف وصلاح نصر في الستينيات من القرن الفائت؟
لا يحتاج الأمر إلى كثير من الذكاء أو العمق في التحليل، لمعرفة أن أي ديكتاتور لا بد من أن يطمئن من وجود أدوات مهمةٍ في جعبته، حتى يستقرّ في حكمه، فلن يستطيع أن يبطش ويعذب من يعارضه من دون شرطة وجيش يسبح بحمده، ولن يجرؤ أن يلقي بالترّهات والنظرة السطحية البلهاء من دون جهاز إعلامي، يوجه مركزياً لتشويه الحقائق وتزييفها، ولكن ذلك كله يحتاج إلى من يتغاضى عن تجاوز الدستور، ويبارك الاستهانة بالقانون، فلا حكم مستبداً بلا قضاء يزيّن (ويشرعن) باطله، وإذا فقد الشعب الشعور بالعدالة، وهذا ما نلحظه حالياً، فالبديل المتوقع هو التحول إلى شريعة الغاب، وهذا كفيل بهدم الدول، فضلاً عن أشباهها.