الدخول الأميركي في العقائدي وحتمية التغيير بقواعد اللعبة
سنركز على البعد الديني العقائدي كونه يعتبر الأهم في ظل تحديات المنطقة، لما يعكسه من تغير في قواعد اللعبة بالنسبة إلى كل الأطراف ذات العلاقة. وليس المقصود أن الدخول الغربي، وتحديداً الأميركي، في المجال الديني هو أمر جديد، بل هو قديم متجدد، وإنما فُتح على مصراعيه في عهد الرئيس ترامب.
على الرغم من التخوّفات من إثارة الصراع الديني في المنطقة، إلا أن فتح هذا الملف قد يفتح أبواباً جديدة للفلسطينيين، ويمثل أداة فريدة ترفع من قدرة الفلسطينيين على مواجهة قرار ترامب والسياسات الاحتلالية الإسرائيلية.
عملت الولايات المتحدة الأميركية بعد زوال "الخطر الشيوعي" عام 1991 على صناعة عدو جديد (العدو الإسلامي) لكي تبقى القوة المهيمنة على العالم. ويتضح ذلك جلياً من قول وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في كتابه "الدبلوماسية من الحرب الباردة حتى يومنا هذا" بأن: "ما تحتاج إليه أميركا هو تهديد واضح ومعروف وأيديولوجيا معادية، هاتان الخاصيتان من خصائص الحرب الباردة لم تعودا موجودتين، الأمر الذي يتطلب خلقهما بالقوة نفسها" .
تتضح في طروحات فرانسيس فوكاياما مشاعر العداء إزاء العالم الإسلامي، إذ يقول: "يبدو أن ثمة اتفاقاً عاماً، إلا في العالم الإسلامي، على قبول مزاعم الديمقراطية الليبرالية بأنها أكثر صور الحكم عقلانية". كذلك يذهب صموئيل هنتنغتون في أطروحته التي شرحها في كتابه "صدام الحضارات" إلى أن: "السنوات التي أعقبت الحرب الباردة شهدت البدايات لتغيرات مثيرة في هويات الشعوب والرموز التي تعود لتلك الهويات. وأخذت السياسات العالمية تُعاد صياغتها بما ينسجم مع الخطوط الثقافية". كذلك يقتبس في كتابه مقولة لمايكل ديبدن من روايته (البحيرة الميتة)، التي تقول: "لا يمكن أن يكون ثمة أصدقاء حقيقيون بدون أعداء حقيقيين. فما لم نكره غيرنا لا يمكن أن نحب أنفسنا".
جاء المنظرون أمثال فوكاياما وهنتنغتون ليصنعوا العدو الإسلامي في العقل والوعي الغربي، لتأتي بعدها المؤسسة العسكرية والأمنية والإعلامية لإعداد سيناريوهات التنفيذ على أرض الواقع. فنظرية صدام الحضارات لم تكن مجرد نظرية في العلاقات الدولية، وإنما كانت برنامجاً أُنشئ في داخل مجلس الأمن القومي الأميركي، والأمن الوطني الموجه نحو خلق عدو استراتيجي وهمي ودائم. ويمكن القول إن أحداث 11 سبتمبر من عام 2001 كانت بمثابة إعلان حرب على العالم الإسلامي ذات آلية استراتيجية لا تقل أهمية عن المتبعة إبان الحرب الباردة.
مما لا شك فيه أن قرار ترامب له بعد عقائدي وديني، وهناك تيار داخل الولايات المتحدة الأميركية كان له أثر كبير في استصدار هذا القرار (المسيحيون الجدد والمسيحيون الصهاينة)، وهو تيار ثابت وموجود بقوة يؤمن بأن "قيام إسرائيل هو مشيئة الله"، وبالتالي لا يوجد نقاش سياسي أو قانوني في هذه المسألة، ويتعاملون معها من منظور عقائدي بحت.
عن العلاقة مع الولايات المتحدة والخيارات الفلسطينية المستقبلية ما بعد إعلان ترامب، يرى حسام زملط، رئيس مفوضية منظمة التحرير الفلسطينية لدى الولايات المتحدة الأميركية وعضو المجلس الثوري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، أن ما حصل فتح للفلسطينيين فرصة حقيقية لفتح الملف العقائدي الديني والاشتباك به، وأن البعد العقائدي لقرار ترامب قدم للفلسطينيين دعماً دولياً غير مسبوق، فانتقاد بابا الفاتيكان بشكل علني قرار ترامب مهم جداً كونه يمثل طيفاً مسيحياً أساسياً. كما أن زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس للأزهر يومي 17 و18 يناير/ كانون الثاني من عام 2018 تمثل بحسب زملط تحدياً وتصدياً لهذا البعد الديني برسالة سامية وأممية من الشعب الفلسطيني. إلى جانب ذلك فإن هناك حراكاً مسيحياً فلسطينياً دائماً يلعب دوراً مهماً تجاه الرأي العام في واشنطن.
امتنعت حركة فتح (كونها حركة لا أيديولوجية) ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها عن إبراز البعد الديني للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ولكن مما سبق يتضح أن قواعد اللعبة تغيرت، وأن العقائدية سيكون لها حيز في الاستراتيجية الوطنية الفلسطينية المقبلة.
لقد أصبحت قيمة البعد الديني للصراع الفلسطيني الإسرائيلي أداة فريدة يمكن أن تجتذب الدعم من العالم الإسلامي بعد تراجع أهمية القضية الفلسطينية لمصلحة زيادة الاهتمام بالصراع في سورية والعراق في الأجندة السياسية في الشرق الأوسط. وارتفعت قيمته كثيراً بعد الأحداث الأخيرة، ولكن على الرغم من ذلك يمكن القول إن الجماهير العربية والدول العربية لم تتخذ أي ردود أفعال قوية وبحجم الحدث ضد إسرائيل.
في أهمية البعد الديني كأداة للمواجهة، فإن نجاح الحراك الشعبي وانتصاره في معركة البوابات الإلكترونية بالمسجد الأقصى التي جرت في شهر يوليو/ تموز من العام الماضي 2017، لم يكن ليتم لولا حضور البعد الديني العقائدي، إذ إن الوازع الديني شكل أساساً قوياً لنجاح الحراك الشعبي الذي غلب عليه غياب السيطرة الحزبية، وكان من أهم أسباب الانتصار، لأن الوازع الوطني يخلق تجاذبات كبيرة أسس لها وزرعها الانقسام السياسي.
إن ضياع الشارع العربي والإسلامي وعدم غليانه بحجم الحدث يعود إلى ضياع الشارع الفلسطيني الذي يعاني من اختلال في المعيار الإجماعي الوطني وتجاذبات وتنافرات كبيرة بفعل الانقسام السياسي الفلسطيني، وعليه فإنه لا يمكن انتظار حراك شعبي عربي وإسلامي بالمستوى المطلوب، إلا بتعزيز العقائدي في الوعي الفلسطيني أولاً، كون هذا البعد أو المجال هو الأهم في ظل تحديات المنطقة، وحينها تمكن زيادة إمكانات سرعة انتشار العدوى للعواصم العربية والإسلامية.