الخطاب التنويري: إعادة إحياء "محاكم التّفتيش"

07 يوليو 2016
(تصوير: بلين هارينغتون)
+ الخط -

خلال عقود تبعت إعلان الاستقلال وبناء الدولة الأردنية، أدّى تهميش الحركات السياسية العلمانيّة أحيانًا، وقمعها في أحيانٍ أخرى، إلى صعود التّيارات الدينيّة في مواجهةِ أي حركةٍ فكريّةٍ تنويريّةٍ تتعارضُ ومصالح التحالف الحاكم.

تمتّعت هذه التيارات بمزايا عديدة لم تقتصر على حريّة إنشاء المراكز الدينيّة، بل تجاوزتها إلى تخصيص وقتٍ من فضاء الإذاعة والتلفزة الرسمية لرجال الدين والدعويّين، عدا عن تدفّق الدّعم المادي من الداخل والخارج دون رقابةٍ أو مساءلةٍ حكوميّة صريحة، وصولًا إلى سماح الدولة لمُنظّري التطرّف بإقامة ندوات ومحاضرات في أماكن عامّة، وهذا كلّهُ حدث في الوقت الذي حُرِمَت فيه التيارات اليساريّة والقوميّة من هذه الامتيازات، وعانت فيه من التضييق والملاحقة الأمنيّة.

ساهمت هذه الممارسات في إنتاج المزيد من التطرّف الديني، إلّا أنّها أسّست أيضًا إلى ظهور خطابٍ فكري استشراقي في الأردن، يتمثّلُ بتيّارٍ علماني - إسلاموفوبي أكثر مما هو عند الغرب، ويقدّمُ منتجًا فكريًا يحاكي محاكمَ التفتيش التي لاحقت الموريسكيين (مسلمي إسبانيا في القرن السّادس عشر) من حيث محاكمة الناس بناءً على معتقداتهم.

لا يقتصر مفهوم الاستشراق على ما صدرَ ويصدُر من كتّاب وباحثي الغرب حول قضايا المشرق، باعتباره مركزًا لقوى الظلام والتخلّف، بل يمكن أن نُتبعه بما يقدّمه بعض المثقفين الليبراليين والعلمانيين، الذين كرّسوا خطاباتهم لمواجهة الممارسات الدينيّة، من خلال خطاب يتبنّى منظورًا غربيًا للتعامل مع قضايا مجتمعاتهم، مع إغفالهم أو تغافلهم عن السياق التاريخي والواقع الاقتصادي والاجتماعي المحيط بهم؛ وهذا ما ساهم في إعطاء النظرة الغربيّة الرأسمالية القائلة بتعصّب وجهل العرب عمومًا والمسلمين خاصةً، وحاجتهم الدائمة لمن يقودهم نحو الديمقراطية، موافقة شرقيّة تجعل منها أمرًا مقبولًا.

هذا ما يراه أحدُ الناشطين اليساريين، شاكر جرّار؛ إذ يعتقد أن بعضًا من المثقفين العلمانيين، الذين اختصّ خطابهم التنويري بنقد التديّن، إنّما يقدّمون خطابًا فوقيًا واستشراقيًا تجاه معتقدات وأفكار الأغلبيّة من أبناء مجتمعاتهم، دون الاكتراث إلى رأي وقناعات هذه الفئة، ومدى رغبتها فعلًا بالتخلي عن هذا الموروث الاجتماعي والفكري. يقول في حديثه إلى "جيل العربي الجديد":

"إنهم يخترعون معارك وهميّة لكي يستمروا في ممارسة عملهم كمثقّفين. جرّبهم الشّارع في مصر؛ كانوا لا يلقون بالًا إذا ما حُرقت البلاد بمن فيها، المهم ألا يحكمهم شخص ملتحٍ، وأن تكون السّيدة الأولى عندهم إنسانة عاديّة لا تشبه سوزان مبارك أو جيهان السادات".

ويضيف جرّار أن المشكلة الحقيقيّة بدأت في توظيف الدّولة للدين للسيطرة على شعبها، بينما كانت ردّة فعل هذه النخبة المثقّفة مقتصرة على توجيه سهامهم للتديّن بدلًا من مواجهة السلطة؛ ما يطرح العديد من الأسئلة حول ما إذا كان خطابهم يحمل طابعًا ثوريًا في وجه الظلم والقهر، أو كان مجرّد شوفينية وقفزة أخرى فوق هموم المواطنين الأساسيّة، ومجرّد ترفٍ فكري، لا يختلف كثيرًا عن خطاب السلطة الذي يسعى لتوجيههم بعيدًا عن أسباب معاناتهم الحقيقيّة، في الوقت الذي يبحثون فيه عن لقمة العيش.

من غير المعروف ما إذا كانت هذه الفئة من المثقّفين تقدّم خطابًا تنويريًا يشكّل أولويّة بالنسبة للجمهور المستهدف؛ فمعظم الفقراء في الأردن يحملون قيمًا دينيّة، وهم أيضًا يمثّلون الفئة المغلوب على أمرها في هذا المجتمع، وبالتالي فإن حملهم على مواجهة التطرّف ونبذه، أو الدفاع عن حقوقهم الأساسيّة، لن يتم من خلال خطاب ينتقد موروثهم الديني؛ ولا يمكن أن يكون من خلال تقديم حلول ثقافيّة، مثل مطالبتهم بتعلّم الموسيقى أو دعم المسرح عوضًا عن حفظ القرآن.

ثمّة إشكاليات في خطاب بعض الكتّاب والمثقفين، الذين اختصروا العلمانية بخطاب نقدي للدّين والممارسات الدينيّة، تتمثّل بنقل العلمانية من شكلها كموقف من بُنيةِ الدولة، إلى موقفٍ من معتقدات الناس وحرّيتهم الدينية؛ وهذا يؤدي بالضرورة إلى ظهور نزاعات جديدة في المجتمع، وتجزئة هوّياتهِ بطريقة لا تختلف عمّا تمارسه السلطة من زيادة في الفجوة بين الطبقات، بل إن هذا النهج سيؤسس أيضًا لخطاب مضلّل حول ماهيّة العلمانية، وينقلها من صراع سياسي ضد شكل من أشكال الدولة، يستغل الخطاب الديني ويوظّفهُ ليشرّعَ ممارستها، إلى كونه صراعا مع عامّة الناس.

يضيف جرّار في هذا السياق: "السلطة معنيّة بتفاقم الخلافات الاجتماعيّة أكثر، وهي تُجيد تحويل المطالبة بالحقوق الأساسيّة إلى جدل حول الحقوق الشخصيّة الفئويّة، وإشكاليّة خطاب بعض المثقفين أنّه يحمل نزعة استشراقيّة فوقيّة، ويتّهم الناس بالإرهاب ويتخيّلهم خلايا نائمة، فقط لكونهم متمسّكين بممارسة معتقداتهم الدينيّة، وهذا نوع من رُهاب الإسلام المُستورد من المجتمعات الغربيّة".

ومثلما استثمرت الدولة الخطاب الدّيني، بات البعض من المثقفين بالمقابل يحتكر الخطاب التنويري، ويسعى لتوجيهه نحو المظاهر الدينيّة حصرًا؛ ما ساهم بشكل كبير في عزوف الناس عن فكرة العلمانيّة الأساسيّة، واعتبارها معادلًا موضوعيًا للإلحاد، بحيث أصبح من الصّعب احتضانها شعبياً، وهو ما يُفقدها –أي العلمانيّة - قدرتها على التغيير للأفضل، كما يُفترض منها.

النزعة الاستشراقية هذه، التي شوّهت ما كان يجب على جزء كبير من النّخبة المثقّفة تقديمه للجماهير، حوّلت العلمانيّة إلى هويّة ثقافية، وجعلت منها مخرجًا للمثقف من اتخاذ مواقف واضحة تجاه كثير من القضايا الأساسيّة، حتى أصبحت العلمانية مفهومًا مموّهًا لا يخبر شيئًا عن صاحبه، يضيف جرّار: "ماذا بعد أن تكون علمانيًا؟ علمانيًا فاشيًا، أم علمانيًا وتدعم الديكتاتوريات، أم علمانيًا عنصريًا تجاه قضايا المرأة؟".

ثمّة نقطة التقاء بين ما يقدّمه الخطاب التنويري المختص بانتقاد الدين والتديّن من جهة، وبين كل من: الخطاب الديني المتطرّف الذي يُقصي (الآخر)، وممارسات السّلطة التي تستثني من حساباتها الفقراء والبسطاء والمهمّشين، لصالح الطبقة الحاكمة، من جهةٍ أخرى.

ويرى جرّار أنّ هذه المعطيات حوّلت مشكلة الصّراع بين الطبقة الحاكمة والشعب، الذي يعاني الظروف الاقتصادية ونقص الخدمات وارتفاع تكاليف التعليم والصحّة والتضييق على الحريات، إلى مشكلة مع أبناء الطبقات البسيطة، الذين أصبحوا سيلًا من ردود الفعل الغاضبة والمندّدة بما ينشغل به بعض التنويريين بمعارك تختص بالترف الفكري، بدلًا من تحديد أولوياتهم تجاه قضايا الشّعب الرئيسيّة.

هذا الانفصال بين المثقف والشعب، يوازيه ارتياحٌ في أوساط التحالف الحاكم، فدراسة تاريخ التغيير الاجتماعي الناجح، تعطي مدلولات حول ارتباط نجاح الحركات الاجتماعية بخلق هويّة تُوازِن بين ما تفترضهُ هذه الحركات وبين ما تحتاجه الأغلبية؛ وهذا هو الاختبار الحقيقي للمثقف التنويري في مجتمعاتنا، في ما إذا كان مستعدًا لمواجهة ما سينتج من تناقضات بين ما يحلمُ هو به، وبين ما يؤمن به الشعب حقًا، وفي ما إذا كان سيرفضُ الاعتراف بهذه التناقضات ويختار التمسّك بـ"الصّواب" واعتبار الموروث الاجتماعي والديني عند أبناء الطبقات البسيطة في وطنه، مجرد أساطير ينبغي التخلص منها.

لا بدّ لحاملِ الخطاب التنويري من العودة إلى تحليل السّياق التاريخي للمجتمع الذي يخاطبه ويسعى للنهضة به، وأن يأخذ بالاعتبار بأن ما يراه الناس "صوابًا" يختلف عما يعتقده هو ويؤمن بصحّته. وبالتالي، تبدأ مهمتهُ بإقناع الجماهير بما يعتقده لا بمحاربة ما يعتقدونه هم، من خلال تقديم خطابٍ يتناولُ منهجيّة التفكير وينعكس على الوعي الجمعي، بعيدًا عن نزعة الاستشراق والفوقيّة؛ وإلّا فإن خطابه سينتهي إلى كونه محضَ حنينٍ لذاكرة أممٍ أخرى، وتغنّيًا بتجاربَ لم يتسنّ للناس خوضها بعد، ومجرّد استهلاك لمفاهيم ليبرالية دون تحليلها ضمن واقع يحمل تطلّعات وأفكار أبناء الطبقات البسيطة في مجتمعاتهم، أولئك الذين يُراد لهم "التنوير" حقًا.


(الأردن)

المساهمون