الحريّة.. كشيطان رجيم!

12 يونيو 2014

Martin Barraud

+ الخط -
كنتُ في الثانوية العامة، عندما تعلّمت في درس الفلسفة، أول مرة، واحدة من عبارات جان بول سارتر القاطعة. أعجبتني جداً، منقوشة على السبورة، بخط المعلّمة الجميل، فنقلتها على الصفحة الأولى من كراسة الفلسفة، بخطي الرديء، شعاراً احتفظت به عنواناً لتلك السنة، ولما بعدها من سنوات. تقول عبارة سارتر إن الإنسان حر في كل شيء، إلا في ألا يكون حراً. أذكر يومها أن المعلمة استغلت وقت الحصة كلها في شرح هذه العبارة، والتي بدت معقّدة بعض الشيء لبعضنا، لكننا انتهينا إلى فهمها والإيمان بها، وخصوصاً أنها ممّا يناسب حماسة العمر الأول في الانفتاح على الحياة وفهمها، بالنسبة لطالبات على أهبة الاستعداد لمغادرة مقاعد الصفوف المدرسية، واختيار نوع الدراسة الجامعية.

عدت إلى هذه العبارة الخالدة في وجداني، قبل فترة، وأنا أقرأ تعليقاً لأحدهم على تغريدات كتبتها في موقع "تويتر"، حول أهمية الحرية وضرورتها لصيرورتنا البشرية، يقول فيه صاحبه: "أنتم تريدون الحرية وبس"، فقلت له: "وهل تريد أنت العبودية وبس مثلاً؟". واضح أنه لا يريد العبودية، كما ناكفته في ردي عليه، لكنه لا يفهم الحرية إلا بصفتها نوعاً من الانفلات والفوضى. وكثيرون مثله يخلطون بين المفاهيم والمصطلحات، عن قصد أو عن جهل، لكنهم، في النهاية، يتوحّدون في إصدار أحكامهم، وفقاً لهذا الخلط وحده.

لا نأتي بجديد عندما نشدّد على أن الإنسان خُلق حراً، وينبغي أن يعيش حياته كلها حراً. هذا هو الأصل، وما عداه استثناء وظلم وعدوان، تحت أي مسمى ولأي سبب وبأي حجة. وعلى الرغم من أن هذه حقيقة واضحة، لا لبس فيها، ولا كان ينبغي أن تكون محل جدال بين الناس، وخصوصاً أنها تؤكد على حرية هؤلاء الناس أنفسهم، إلا أننا نجد دائماً مَن يجادل فيها. وبالتأكيد، فإن للكل، من باب تلك الحرية نفسها، حق الجدال في كل شيء، وعلينا جميعاً تقبّل ذلك الجدال والآراء الناتجة عنه، سواء اتفقنا معها، أو رفضناها في النهاية، فهي آراء شخصية على أية حال. لكن بعض مَن يصدر مثل هذه الآراء لا يصدرها، لكي تبدو كذلك، أي أنها لا تصدر عن أصحابها بصفة شخصية بل بصفة فتاوى دينية، وهنا مكمن الخطر فيها، وفي كل نقاش حولها.

صحيح أن الإسلام هو الدين الوحيد، ربما، الذي لم يعتنِ بخلق طبقة "رجال دين"، ومع هذا وجدنا مَن أوجد هذه الطبقة، وأعطاها من الحقوق فوق حقوق بقية المسلمين. فكل رأي خاص يقوله مَن يقدّم نفسه للآخرين بصفته رجل دين تحت أي مسمى، كالداعية أو الفقيه أو الشيخ، يتلقفه الجمهور المسلم باعتباره فتوى دينية لا تُردّ، وكثيرون من هؤلاء "الدينيين" يرتاحون لتقبّل الجمهور آراءهم الشخصية، باعتبارها فتاوى وما هي بفتاوى. وعلى الرغم من أنهم يعلمون أكثر من غيرهم، أو هكذا ينبغي، أن لا إكليروسية في الإسلام، إلا أنهم يتصرفون بما يساهم في إيجاد مثل هذه الإكليروسية الإسلامية الدخيلة على الدين، ويستغلونها في إيصال رسائلهم الخاصة إلى العامة، في سياق ديني إسلامي لا يليق بها.

ومن أهم الرسائل رسالتهم "الخاصة" في محاربة الحرية، وكأنها شيطان رجيم! فيصوّرون كلّ مَن ينادي بالحرية أولوية في الحياة، وكأنه يعتدي على ثوابت الإسلام، متناسين أن الإسلام إنما هو دين الحرية. فإن ناقشهم أحد في الأمر، قالوا إنهم لا يقصدون هذا النوع من الحرية، وكأن الحرية أنواع وأشكال، وليست قيمة واحدة، لا تحتمل كل هذا الخلط والتأويل الاستغلالي البشع.

الحرية ليست هبة الله لنا وحسب، بل هي جوهرنا الذي خلقنا عليه كبشر، ولكن هؤلاء لا يخجلون من الله، وهم يحاولون سلبها من البشر باسمه تعالى.

هل أحتاط للأمر كالعادة، فأقول إن بعضهم فقط يفعل ذلك، حتى لا أقع في محظورات الجماهير الغفيرة، وغير الغفورة لرجال الإكليروس الإسلامي؟ لن أفعل، بل سأقول إن أكثرهم يفعل ذلك، فالاستثناءات قليلة وصامتة للأسف عن بقية النماذج، وهي تراها مستمرة في تشويه الدين في تلك الجزئية تحديداً. وبدلاً من مراعاة خواطر هؤلاء، والخوف من أولئك، علينا أن نعتاد على مناقشة مثل هذه الأمور بكل حرية،  حثّنا عليها ديننا نفسه، قبل أن يشوّهه المشوهون!
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.