الحجّة الدامغة

29 يناير 2015
+ الخط -

هاتفني على جوّالي منذ الصباح الباكر، يريد لقائي. قابلته، وكان الحديث له وحده: (أثبتُّ، بالدليل القاطع، أنّ خلطة الليمون المجفف بقشره مع الكمون وملح كلور البوتاسيوم سيفيد الذين يعانون من ضغط الدم المرتفع. الليمون منعش، والكمّون يساعد على التخفيض، وملح البوتاسيوم الظريف يحلّ محلّ ملح الطعام ثقيل الظلّ). ثمّ تابع: (أظنُّكَ اقتنعت، الآن، بحجّتي)، ثمّ أخرج من جيبه علبة دواء وابتلع حبّة منها. قلتُ له: ما هذه الحبّة؟ قال: (حبوب لتخفيض ضغط الدم!). علّقتُ عليه وقلتُ مازحاً: الآنَ اقتنعتُ، بل اعتقدْتُ بحجّتك.

وبعد عدّةِ أشهر، صادفته في الشارع على غير موعد. تبادلنا الأفكار والأخبار. سألته: ماذا حلّ بخلطتِكَ إيّاها؟ أخذ دقائق ليتذكّر. ثمّ استدرك: (آه! آخذ علب دواء والأمور ماشية).

وحقيقة الأمر أنّنا نبحث، جاهدين، عن حجّة تؤيّد رأينا النظريّ الفضفاض في أيّ قضيّةٍ. ونلهث، جاهدين أيضاً، في محاولات الإقناع بأنّ ما نقدّمه من أدلّة وبراهين لا تقبل الشكّ. ونختلف، كلّ منّا يقدّم حجّته، وكلّ منّا يتمترس عند صحّة وجهة نظره. وكلٌّ منّا يسفّه حجج الآخرين، وينفضّ المولد بلا حمّص، بل قل الجلسات واللقاءات وأيّ مناسبة من مناسبات الحوار. ولا أحد منّا يبحث عن خطوة عملية واحدة لمستقبل أفضل، سواء كان صاحب حجّة أم لم يكن، وسواء اقتنع بحجج الآخرين أم لم يقتنع.

ونستسلم جميعاً لبراهيننا، وندع المصادفات وحدها لتحلّ مشكلاتنا.

ولكن، لا مصادفات في عالم السياسة أو التربية أو العلاقات الاجتماعية أو الصحّيّة أو الحياة الأدبية، أو الرغبة في التقدّم والرقيّ عموماً. هناك قوى خفيّة داخلية، أو خارجية، تجد الساحة فارغة، فتملأ هذا الفراغ بسهولة عجيبة. ونعود إلى الرضوخ لأمر واقع، يختلف عن أمر واقع سابق، منذ عقد أو أكثر. ونبدأ بالتحسّر على الزمن الماضي، وما كان فيه من إيجابيّات. مع أننا أنفسنا كنّا نذمّه لِما فيه من سلبيّات.

علينا جميعاً ألّا نتنصّل من مسؤولياتنا، وفي الوقت نفسه، ألّا نحمّل أنفسنا ما لا طاقة لنا به. دور المفكّر الأوحد المنقذ ولّى منذ زمان بعيد، وحلّت محلّه فكرة الحياة الجماعيّة. لم يعد أديب بمفرده يمتلك الساحة الأدبية دون غيره، فالساحة الأدبية ملك لجميع الأدباء، وهكذا.

لنفتّش عن المستقبل الضائع بين أكوام المهاترات والمناقشات العقيمة، فكلّنا ينتظر هذا الضيف القادم الذي لا ينتظر أحداً، وكلّنا له موعد معه لبناء الحياة له، أو لأبنائه، أو لأبناء جيله والأجيال المتتابعة. فماذا أعددنا للمستقبل؟

نعلم، جميعاً، أنّ وطننا مريض، وهذا المريض ليس بحاجة إلى اللوم والعتب وبيان الأسباب التي أدّت إلى مرضه. صحيح أنّ التشخيص هو بداية العلاج، لكنّه لا يمتّ إلى العلاج بصلة إذا اكتفينا بالتشخيص.

المريض بحاجة إلى كلّ واحدٍ منّا، بحاجة إلى ابتسامة تعينه على الشفاء في المستقبل العاجل، بحاجة إلى من يضع له حبّة الدواء في فمه، بحاجة إلى من يغيّر له بعض ملابسه، أو مفارش سرير المرض، بحاجة إلى من يسمعه موسيقى، إلى مَنْ يعدّ له الغذاء الملائم. لكنه ليس بحاجة إلى جرعات قاسية من اللوم، واللوم فقط.

المريض بحاجة إلى طبيب واحد، أو عدد محدود من الأطبّاء. أمّا أن نتحوّل جميعاً إلى مشخّصين، ثمّ أطبّاء، ثمّ نختلف في طريقة العلاج، فهذا ما لا يطيقه مريض، وربّما نخسره ونودي به إلى نهاية مفجعة، لا سمح الله، إذا بقينا نتفلسف في موضوعاتٍ، لا علاقة لها عملياً بعلاجه الحقيقي.

لكلّ منّا دور في علاج المريض، شريطة ألا يتعدّى على أدوار الآخرين، فللمعلّم دور كبير جداً، وللعامل دور فعّال، والموظّف والفلاح والحرفي والتاجر والصناعي ورجال الخدمات. لكن هذا كلّه لا يعني التداخل في اختصاص كلّ منهم، بل علينا أن نسلّم للآخرين بأدوارهم، وأن نأخذ دورنا بجدّيّة تامّة وإخلاص، ولا ننظر إلى أدوار أمثالنا وتقصيراتهم.

فلنبحث عن أدوارنا في معالجة هذا المريض، ولنقلع عن اصطناع الحجج الدامغة منها والمراوغة، فالعقول باطلة إن لم تحرّض على عمل مفيد ومتوثّب نحو المستقبل، ينظر إلى مجموع أبناء الوطن ومستقبله.

كفانا تنظيرات، وكفانا نقاشات. نحن بحاجة إلى لغة جديدة، هي لغة الحضّ على العمل.

(ملاحظة: الكاتب غير مسؤول عن صحّة الخلطة، ولا علاقة له بالخلطات العلاجية).

 

avata
avata
محمد بن يوسف كرزون (سورية)
محمد بن يوسف كرزون (سورية)