21 ابريل 2022
الحالة السعودية.. عن إعادة إنتاج قريش
يُظن أن الإسلام يجبُّ ما قبله، لكن ثمّة متغيرات في هذا الشأن، في فضاء الاجتماع السياسي في العصر الحديث، وتحديدًا في الحالة السعودية، ففي المجتمع البدوي الذي جمع منه ابن خلدون جلَّ بياناته تقريبًا لا تعني روح القبيلة أو العصبية سوى القوة الاجتماعية التي يهيمن عليها بعض الأشخاص للوصول إلى السلطة، كشيوخ القبائل مثلًا، فالدين من غير عصبية أمر مستحيل، بحسب ابن خلدون.
يمكن لهذا المدخل أن يفسّر شكل البداوة في النموذج السعودي، ومحاولات عصرنتها بشكلٍ يحافظ على ديمومتها، من حيث هي بنية اتباع وخضوع، وليس باعتبارها بنية ديمقراطية للتمرّد على الظلم والقهر، فالإسلام الذي جاء ليحرّر الأفراد من العبودية والقهر والظلم الاجتماعي لم يعتمد، في البداية، على أهل الصحراء بقدر ما اعتمد على أهل المدينة، فأهل المدن والقرويون عادة ما تكون بينهم طبقات ضعيفة مستغلة ومحتقرة من الطبقات الغنية، ولذلك انجذب هؤلاء إلى تعاليم المساواة الاجتماعية والديمقراطية التي جاء بها النبي. أمّا البدو فهم على النقيض من ذلك، إذ، بسبب حروبهم القبلية المستمرة، لا يستطيعون تربية أفرادٍ على الإذعان والقبول بالاستغلال والإهانة، وإلا فقدوا عنصر قوتهم. فلا يوجد مكانٌ للدين في المجتمع البدوي، وذلك ببساطةٍ لأنه لا توجد طبقات مضطهدة في ما بينهم، فالتنظيم القبلي مبنيٌّ بصورة أساسية على أواصر القربى، وليس على غيره، واختيار رئيس القبيلة ليس إلا باعتبار السن (والسن لا ظلم فيه)، وباعتبار القيمة الأدبية القائمة على الشرف، والشرف لا يكون بظلم "ذوي القربى"، ما يجعل قيمة الشرف البدوي العربي قيمةً عليا، أو كما يقول أستاذ الأدب السامي في جامعة برنستون، فيليب حتّي: "العربي بصورة عامة، والبدوي بصورة خاصة، يولد ديمقراطيًا، فهو وشيخه على قدم سواء، فالمجتمع الذي يعيش فيه يساوي بين كل شيء".
لذا وجد النبي طريقة أخرى غير الخطاب القائم على المثل الاجتماعية والطبقية، لاجتذاب البداوة إلى فضاء الدين، فقد أراد هؤلاء ما يخاطب قيمهم النفعية – المادية، القائمة على الحرب والإغارة والغنائم، فكان أن اجتذبهم بعد انتصاره في معركة بدر، وأصبحت لغة الغنائم والمنفعة المادية والأرباح هي الضامن لولاء البدو، وليس الوعد بقيم اجتماعية وعدالة ليست غريبة على البدوي في فضاء قبيلته. بلفظ آخر، أعيد انتاج شكل من البداوة قائم على القوة، يرسم حدود الجماعة الإسلامية، من دون التنازل عن البداوة، باسم القوة، ولعل هذا ما قصده ابن خلدون بقوله: "الدعوة الدينية بلا عصبية لا تنجح".
استعادة البدوي القرشي
بدأت الدولة السعودية بتعاضد بين الدين الإسلامي في شكله الوهابي حصرًا ومؤسسة القبيلة في شكل آل سعود والقبائل المتحالفة معها بروابط الدم عبر مئات الزيجات، فكانت إعادة إنتاج
العصبية والمصلحة لضمان الاستمرار والهيمنة أمرًا أساسيًا، قائمًا على الجسد أولًا، وعلى الآخر (الكافر) ثانيًا، باعتباره من أشكال الغنائم على مستوى المادة والمنفعة ومستوى الخطاب والشرعيّة، والكافر ليس أكثر من غير الوهابي من المسلمين، ولهذا التفصيل أهميته في توطيد العلاقة مع القوى الغربية.
هجم التحالف الوهابي السعودي، في العام 1802، على مدينة كربلاء، جنوبي العراق، في العاشر من شهر محرّم، وتحديدًا في موعد اجتماع للشيعة لإحياء ذكرى استشهاد الإمام، فأوقعوا فيها السلب والنهب والهدم والقتل والتذبيح، وكان نصيب الرجل من الغنائم "سهما من الغنائم، فيما للفراس سهمان"، كما يقص بذلك المؤرخ السعودي عثمان بن عبدالله بن بشر. وبعد عام، احتل الوهابيون والسعوديون الحجاز، فحاصروا الطائف حصارًا طويلًا شابه كثير من المسايسة والتفاوض الموسومين بالفشل، فما كان إلا أن دخلوا المدينة، وعاثوا فيها كما عاثوا في كربلاء قبلها. وفي 1805 عادوا إلى الإغارة على مكة والمدينة، فاحتلوها لست سنوات، قتلوا ونهبوا وسرقوا، وفرضوا المذهب الوهابي على أهلها بالقوة، كان على الدوام ثمة حاجة لـ"آخر" هو هدف وغنيمة للوهابي - السعودي، وبالذات على معيار رأسي.
يطول الحديث عن تلك الشواهد التاريخية وغيرها، الموغلة في القتل والوحشية، لكن المرور بها، دخول إلى ما بعدها، ففي العصر الحديث الذي باتت فيه هذه الأشكال من البداوة الحربية استثناءً، كانت الحاجة ضروريةً للدولة السعودية لإيجاد شكلٍ آخر من الغنيمة لضمان عصبيتها التي تقوم عليها الدولة، فكان قانون "الكفالة"، مثلًا، والذي يحقق شرطية المنفعة للبدوي، من دون حرب، والأهم من دون الاصطدام بالاستقرار (المضاد للبداوة والترحال) الذي تفرضه حداثة القرن العشرين، فقانون الكفالة يحقق للسعودي شكلًا من التربّح الخالي من العمل بمفهومه المباشر حتى. بمعنى أن الكفيل السعودي يجني الأرباح لمجرد كونه "كفيلًا"، وهو النظام الذي يمنح معنى أن تكون سعوديًا معيارًا ربحيًا، فتغير مفهوم الرعي والأنعام إلى مفهوم الكفالة، من دون أن يتغير الراعي. لذا وعلى الرغم من كل الانتقادات الحقوقية عالميًا لنظام الكفالة السعودي، فإن الاستغناء عنه أمر صعب في ما يتعلق بالمنظومة الثقافية والأيديولوجية والخطابية، وحتى السياسية الاجتماعية للدولة السعودية، لأنه يطعن في شرعية هيمنتها فضاءً بدويا، أمام البدوي.
المدينة البدوية
لعل العمارة هي طريقة لرؤية الأشياء والعالم. وعليه هي أيضًا طريقة لفهم الأشياء والعالم
الذي هي فيه. بمعنى آخر، يمكن بتأمل المدن فهم أهلها وطريقة رؤيتهم لعالمهم وموقعهم منه/ فيه، وآخرهم. ولأن المدينة هي الشكل الحداثي/ الحديث للدول، فكل نظام يتماهى مع مدينته وعاصمته، ومن هنا تأمل المدينة السعودية، يكشف عن سيرروة الحداثة وتمظهر الدولة في المدينة.
المراقب للسعودية في الفترة الأخيرة، يمكنه، من دون كثير تربصٍ وحاجة، أن يلاحظ ما يحدث للمدن فيها في فصل الشتاء، وتحديدًا عاصمتها: الرياض. ففي الشتاء تغرق المدينة، وتصاب بحالة من الشلل بعد كل ليلة ماطرة، لأن بناء المدينة السعودية يتماهى مع فكرة الخيمة للبدوي، فعلاقة البدوي بمكانه موسومة بالرحيل بعد انتهاء المنفعة. لذا فلا حاجة لما هو تحت الأرض من أساسات للخيمة، الخيمة موسومة كما صاحبها بالرحيل، فلا استمرار ولا ديمومة للوجود في المكان. وهنا هو منطق المدينة السعودية، ورؤية البدوي (متمثلًا في بداوة الدولة بوصفها منظومة خطابية وعقلية، وإجرائيّة) لمدينته و"مكان" وجوده، لذا فأزمة البناء في الرياض أزمة بنية تحتية، موجودة حصرًا بمنطق التماهي مع الخيمة، بغض النظر عمّا تنفقه الدولة على الإعمار والإسكان في المدن والتمدين، بجانب، طبعًا، غياب عنصرين مهمين من عناصر الإدارة: الرقابة والشفافية، إلا أن المدينة/ الخيمة سرعان ما تغرق في شبر ماء.
شاهد آخر على المدينة البدويّة هو منطق التعامل فيها مع الحركة، فسرعة الانتقال عنصر أساسي من عناصر تحديث المدينة، ولا سرعة انتقال من دون نسيج قانوني وإجرائي ورقابي لضبط تلك الحركة. وفي النظر إلى ظاهرة الحركة وتخطي الحارات وفضاءات الراجلين (الأرصفة) بالسيارات من أجل الانتقال من حارة مرورية إلى أخرى، تجد منطق التعامل نفسه مع الراحلة أو الدابة التي لا تلتزم بحارات مرورية ونسيج قانوني وإجرائي للانتقال من وإلى. ليس ذلك فحسب، إنما منطق التعامل مع البدوي صاحب الراحلة/ المركبة، في مقابل التعامل مع غير البدوي في التعامل مع راحلته، وأن تنفيذ القانون على المخطئ منهما لا يكون إلا في حالة الأجنبي (غير السعودي) باعتبار أن السعودي/ البدوي مالك كل شيء، ومن حكم في ما له (وماله)، ما ظلم!
إذا كانت المدينة هي الشكل الهوياتي المعبر كمكان عن الدولة الحديثة، وقدرتها على مواءمة عمليات العصرنة، فإن الرياض هي الشكل الحديث للعنصرية المكانية للدولة القائمة على عصبية البداوة. ولعل أبرز الشوارح والأدلة هي طقوس الاحتفال بما يسمى اليوم الوطني، وما يصاحبه من أحداث اعتداء على غير السعوديين (من الجنسيات غير الأوروبية و/ أو الأميركية) كمشهد احتفالي هوياتي، يفضح تشكل هوية البدوي (الأقوى) مقابل هوية الآخر (الأضعف/ الغنيمة).
التناقض الاجتماعي
يعيش المواطن السعودي حالة من التناقض الاجتماعي، تشي بانفجاراتٍ كثيرة لم تكن أزمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، والتمثيل بجثته إلا فصلًا صغيرًا من فصول أزمة المعنى التي يمر بها ذاك المواطن وتلك الدولة، والتي لا يبدو أنها تبشّر بأي نهاية سعيدة محتملة
لكليهما. فالدولة التي انبنت في داخلها خطابيًا على أساس ديني يرفض كل أشكال الفنون والمتع، ويكفّر بصريح العبارة والحادّ منها كل آخر إلاه من المسلمين وفرق الإسلام، باتت داعمةً كل أشكال هذا الآخر وفنونه، خارجها، فالموسيقا التي جرمها التديّن الوهابي للدولة والمجتمع، هي وغيرها من الفنون، حرام شرعًا، والمرأة كائن جنسي مهووس بالجنس تجب السيطرة عليه، فلا سفر لها من دون ذكر حامٍ لها ومدافع، ومانح للمعنى، وإلا فالتهويمات الجنسية الأيروسية مصيرها. إلا أن الدولة ومنابرها ورؤوس أموالها هي الداعم الأساسي لكل برامج التلفزة والقنوات الفضائية والمحطات التي تحتفي بالفنون والموسيقا والغناء والرقص، وغير ذلك مما هو "محرّم" في أدبيات الوهابية.
أصاب هذا الفارق الشاسع بين الداخل والخارج المواطن الفرد بثنائية حادّة، أدّت إلى فصام الداخل والخارج، فأشكال الحياة المطلوبة للمواطن في داخل فضاء الدولة يتناقض مع ذلك خارج الدولة، بلفظ آخر الزمن داخل الدولة وخارجها، يجبر المواطن على التحرّك بين قطبين متضادين وعنيفين، فالحداثة والانفتاح في الخارج يتضادان مع التخلف والانغلاق في الداخل، ولعل المثال الأشهر كان خروج مفتي عام السعودية في القرن العشرين على العالم بكتابٍ يقول فيه إن الأرض منبسطة، وهي مركز الكون، والقول بغير ذلك كفر بالله، في زمنٍ نظرت فيه البشرية إلى الكرة الأرضية من على سطح القمر، ليظل قول هذا المفتي داخل بلاده قولًا له وجاهته في مجتمعه، لكن في الخارج هو ليس أكثر من نكتةٍ لا تثير إلا الشفقة، نكتة يدفع ثمنها المواطن والفرد، وليس الدولة وحدها.
ومن هنا تفسر بعض الآراء هبوب السعودية لحماية البحرين من رياح ثورات الربيع العربي، لأن الأخيرة تمثل الباحة الخلفية للمواطن السعودي من الطبقتين، المتوسطة والمتوسطة الدنيا، لتفريغ حاجته لما هو ممنوع عنه في بلاده من فنون ومتع وغيرها في البحرين، لتظل تلك ساحة السعوديين المسوّرة، للمتع، لكن ليس للسياسة.
يستمر هذا التناقض الذي يتآكل المواطن السعودي حتى النخاع، تاركًا فيه رواسب من الفصام
المتراكم ليحكم من خلاله علاقته بالعالم، ولضيق نظر الدولة السعودية ومعرفتها، يأتي ولي عهدها، بمنتهى العنجهية، مانحًا بلاده أشكالًا من الحداثة باسم الإصلاح، لكن لا إصلاح فعليا من دون فضاء سياسي مفتوح، لذا فكل القرارات التي صدرت بفتح البلاد أمام السينما والموسيقا والسماح للمرأة بالقيادة، وغير ذلك، لم تأت بتغيير مجتمعي من القاعدة، لأنها مفروضةٌ من أعلى، ومن دون فضاء سياسي وحرياتي يمنحها المعنى، وهما الفضاءان المناقضان لمفهوم البداوة، أي أن نجاح أمور كتلك مشروطٌ بانتهاء أشكال القبيلة والبداوة والتديّن التي انبنت عليها الدولة والفرد.
يستمر هذا التناقض، وصولًا إلى شريحة هامة قادرة على كسره، وهي شريحة المبتعثين، وهم فئة الشبان والشابات الذين ذهبوا إلى خارج الفضاء والزمن البدوي للدولة السعودية الوهابية، وانكشفوا على أشكالٍ من المؤسسات الحداثية في أوروبا وأميركا وأستراليا، وعادوا محملين بصدام هذه الثنائية وتساؤلاتها بين التقدم والتخلف بين تحريم كل شيء بوجود ولي الأمر المنزّه عن كل شيء، وتحليل كل شيءٍ بوجود عقل نقدي وممارسة مؤسّساتية حداثية. هذه الفئة التي اصطدمت برجعية نظامها في الأزمة الأخيرة مع كندا، فلجأ بعضها إلى تقديم طلبات اللجوء السياسي، حسما لهذا التناقض.
لن تلبث حالة التناقض الاجتماعي تلك أن تنفجر داجل جسد المجتمع والدولة، مخلفة من الأثمان عظيمها، وبالذات في غياب مؤسسةٍ بالشكل الإجرائي الذي يمكنه أن يحفظ الحقوق، ويدير الأزمات، بعيدًا عن القبيلة وفضائها، وكذلك غياب مفهوم "الجماعة العضوية السعودية" في ما يتعلق بسؤال الهوية (من هو السعودي؟!)، فانتماء البدوي لقبيلته، وليس لمفهوم الوطن، وبالذات في غياب المنفعة المادية المباشرة.
ولعل نموذجًا مثل نموذج قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، في إسطنبول، كافٍ في سيرورته باعتباره حدثا، وسيرورة خاشقجي فردا من القبيلة خرج عن طاعتها، لعله شارح لتعامل القبيلة مع ابنها، ومع أزمتها، ومع باقي أفراد القبيلة أمام تناقض الداخل والخارج وهشاشة هذا التناقض لما ينتجه من فصام، وفشل، وكذب أمام العالم. في محاولات بعض كتّاب ما تسمى الصحف السعودية رسم حدود كاذبة تاريخيًا للجماعة العضوية السعودية والدولة، هم يدّعون انتسابًا للنبي بالكذب، إلا أنهم، كما يبدو، لم يخطئوا كثيرًا، فقريش لم تمت، ولا الإسلام جبَّ ما قبله.
يمكن لهذا المدخل أن يفسّر شكل البداوة في النموذج السعودي، ومحاولات عصرنتها بشكلٍ يحافظ على ديمومتها، من حيث هي بنية اتباع وخضوع، وليس باعتبارها بنية ديمقراطية للتمرّد على الظلم والقهر، فالإسلام الذي جاء ليحرّر الأفراد من العبودية والقهر والظلم الاجتماعي لم يعتمد، في البداية، على أهل الصحراء بقدر ما اعتمد على أهل المدينة، فأهل المدن والقرويون عادة ما تكون بينهم طبقات ضعيفة مستغلة ومحتقرة من الطبقات الغنية، ولذلك انجذب هؤلاء إلى تعاليم المساواة الاجتماعية والديمقراطية التي جاء بها النبي. أمّا البدو فهم على النقيض من ذلك، إذ، بسبب حروبهم القبلية المستمرة، لا يستطيعون تربية أفرادٍ على الإذعان والقبول بالاستغلال والإهانة، وإلا فقدوا عنصر قوتهم. فلا يوجد مكانٌ للدين في المجتمع البدوي، وذلك ببساطةٍ لأنه لا توجد طبقات مضطهدة في ما بينهم، فالتنظيم القبلي مبنيٌّ بصورة أساسية على أواصر القربى، وليس على غيره، واختيار رئيس القبيلة ليس إلا باعتبار السن (والسن لا ظلم فيه)، وباعتبار القيمة الأدبية القائمة على الشرف، والشرف لا يكون بظلم "ذوي القربى"، ما يجعل قيمة الشرف البدوي العربي قيمةً عليا، أو كما يقول أستاذ الأدب السامي في جامعة برنستون، فيليب حتّي: "العربي بصورة عامة، والبدوي بصورة خاصة، يولد ديمقراطيًا، فهو وشيخه على قدم سواء، فالمجتمع الذي يعيش فيه يساوي بين كل شيء".
لذا وجد النبي طريقة أخرى غير الخطاب القائم على المثل الاجتماعية والطبقية، لاجتذاب البداوة إلى فضاء الدين، فقد أراد هؤلاء ما يخاطب قيمهم النفعية – المادية، القائمة على الحرب والإغارة والغنائم، فكان أن اجتذبهم بعد انتصاره في معركة بدر، وأصبحت لغة الغنائم والمنفعة المادية والأرباح هي الضامن لولاء البدو، وليس الوعد بقيم اجتماعية وعدالة ليست غريبة على البدوي في فضاء قبيلته. بلفظ آخر، أعيد انتاج شكل من البداوة قائم على القوة، يرسم حدود الجماعة الإسلامية، من دون التنازل عن البداوة، باسم القوة، ولعل هذا ما قصده ابن خلدون بقوله: "الدعوة الدينية بلا عصبية لا تنجح".
استعادة البدوي القرشي
بدأت الدولة السعودية بتعاضد بين الدين الإسلامي في شكله الوهابي حصرًا ومؤسسة القبيلة في شكل آل سعود والقبائل المتحالفة معها بروابط الدم عبر مئات الزيجات، فكانت إعادة إنتاج
هجم التحالف الوهابي السعودي، في العام 1802، على مدينة كربلاء، جنوبي العراق، في العاشر من شهر محرّم، وتحديدًا في موعد اجتماع للشيعة لإحياء ذكرى استشهاد الإمام، فأوقعوا فيها السلب والنهب والهدم والقتل والتذبيح، وكان نصيب الرجل من الغنائم "سهما من الغنائم، فيما للفراس سهمان"، كما يقص بذلك المؤرخ السعودي عثمان بن عبدالله بن بشر. وبعد عام، احتل الوهابيون والسعوديون الحجاز، فحاصروا الطائف حصارًا طويلًا شابه كثير من المسايسة والتفاوض الموسومين بالفشل، فما كان إلا أن دخلوا المدينة، وعاثوا فيها كما عاثوا في كربلاء قبلها. وفي 1805 عادوا إلى الإغارة على مكة والمدينة، فاحتلوها لست سنوات، قتلوا ونهبوا وسرقوا، وفرضوا المذهب الوهابي على أهلها بالقوة، كان على الدوام ثمة حاجة لـ"آخر" هو هدف وغنيمة للوهابي - السعودي، وبالذات على معيار رأسي.
يطول الحديث عن تلك الشواهد التاريخية وغيرها، الموغلة في القتل والوحشية، لكن المرور بها، دخول إلى ما بعدها، ففي العصر الحديث الذي باتت فيه هذه الأشكال من البداوة الحربية استثناءً، كانت الحاجة ضروريةً للدولة السعودية لإيجاد شكلٍ آخر من الغنيمة لضمان عصبيتها التي تقوم عليها الدولة، فكان قانون "الكفالة"، مثلًا، والذي يحقق شرطية المنفعة للبدوي، من دون حرب، والأهم من دون الاصطدام بالاستقرار (المضاد للبداوة والترحال) الذي تفرضه حداثة القرن العشرين، فقانون الكفالة يحقق للسعودي شكلًا من التربّح الخالي من العمل بمفهومه المباشر حتى. بمعنى أن الكفيل السعودي يجني الأرباح لمجرد كونه "كفيلًا"، وهو النظام الذي يمنح معنى أن تكون سعوديًا معيارًا ربحيًا، فتغير مفهوم الرعي والأنعام إلى مفهوم الكفالة، من دون أن يتغير الراعي. لذا وعلى الرغم من كل الانتقادات الحقوقية عالميًا لنظام الكفالة السعودي، فإن الاستغناء عنه أمر صعب في ما يتعلق بالمنظومة الثقافية والأيديولوجية والخطابية، وحتى السياسية الاجتماعية للدولة السعودية، لأنه يطعن في شرعية هيمنتها فضاءً بدويا، أمام البدوي.
المدينة البدوية
لعل العمارة هي طريقة لرؤية الأشياء والعالم. وعليه هي أيضًا طريقة لفهم الأشياء والعالم
المراقب للسعودية في الفترة الأخيرة، يمكنه، من دون كثير تربصٍ وحاجة، أن يلاحظ ما يحدث للمدن فيها في فصل الشتاء، وتحديدًا عاصمتها: الرياض. ففي الشتاء تغرق المدينة، وتصاب بحالة من الشلل بعد كل ليلة ماطرة، لأن بناء المدينة السعودية يتماهى مع فكرة الخيمة للبدوي، فعلاقة البدوي بمكانه موسومة بالرحيل بعد انتهاء المنفعة. لذا فلا حاجة لما هو تحت الأرض من أساسات للخيمة، الخيمة موسومة كما صاحبها بالرحيل، فلا استمرار ولا ديمومة للوجود في المكان. وهنا هو منطق المدينة السعودية، ورؤية البدوي (متمثلًا في بداوة الدولة بوصفها منظومة خطابية وعقلية، وإجرائيّة) لمدينته و"مكان" وجوده، لذا فأزمة البناء في الرياض أزمة بنية تحتية، موجودة حصرًا بمنطق التماهي مع الخيمة، بغض النظر عمّا تنفقه الدولة على الإعمار والإسكان في المدن والتمدين، بجانب، طبعًا، غياب عنصرين مهمين من عناصر الإدارة: الرقابة والشفافية، إلا أن المدينة/ الخيمة سرعان ما تغرق في شبر ماء.
شاهد آخر على المدينة البدويّة هو منطق التعامل فيها مع الحركة، فسرعة الانتقال عنصر أساسي من عناصر تحديث المدينة، ولا سرعة انتقال من دون نسيج قانوني وإجرائي ورقابي لضبط تلك الحركة. وفي النظر إلى ظاهرة الحركة وتخطي الحارات وفضاءات الراجلين (الأرصفة) بالسيارات من أجل الانتقال من حارة مرورية إلى أخرى، تجد منطق التعامل نفسه مع الراحلة أو الدابة التي لا تلتزم بحارات مرورية ونسيج قانوني وإجرائي للانتقال من وإلى. ليس ذلك فحسب، إنما منطق التعامل مع البدوي صاحب الراحلة/ المركبة، في مقابل التعامل مع غير البدوي في التعامل مع راحلته، وأن تنفيذ القانون على المخطئ منهما لا يكون إلا في حالة الأجنبي (غير السعودي) باعتبار أن السعودي/ البدوي مالك كل شيء، ومن حكم في ما له (وماله)، ما ظلم!
إذا كانت المدينة هي الشكل الهوياتي المعبر كمكان عن الدولة الحديثة، وقدرتها على مواءمة عمليات العصرنة، فإن الرياض هي الشكل الحديث للعنصرية المكانية للدولة القائمة على عصبية البداوة. ولعل أبرز الشوارح والأدلة هي طقوس الاحتفال بما يسمى اليوم الوطني، وما يصاحبه من أحداث اعتداء على غير السعوديين (من الجنسيات غير الأوروبية و/ أو الأميركية) كمشهد احتفالي هوياتي، يفضح تشكل هوية البدوي (الأقوى) مقابل هوية الآخر (الأضعف/ الغنيمة).
التناقض الاجتماعي
يعيش المواطن السعودي حالة من التناقض الاجتماعي، تشي بانفجاراتٍ كثيرة لم تكن أزمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، والتمثيل بجثته إلا فصلًا صغيرًا من فصول أزمة المعنى التي يمر بها ذاك المواطن وتلك الدولة، والتي لا يبدو أنها تبشّر بأي نهاية سعيدة محتملة
أصاب هذا الفارق الشاسع بين الداخل والخارج المواطن الفرد بثنائية حادّة، أدّت إلى فصام الداخل والخارج، فأشكال الحياة المطلوبة للمواطن في داخل فضاء الدولة يتناقض مع ذلك خارج الدولة، بلفظ آخر الزمن داخل الدولة وخارجها، يجبر المواطن على التحرّك بين قطبين متضادين وعنيفين، فالحداثة والانفتاح في الخارج يتضادان مع التخلف والانغلاق في الداخل، ولعل المثال الأشهر كان خروج مفتي عام السعودية في القرن العشرين على العالم بكتابٍ يقول فيه إن الأرض منبسطة، وهي مركز الكون، والقول بغير ذلك كفر بالله، في زمنٍ نظرت فيه البشرية إلى الكرة الأرضية من على سطح القمر، ليظل قول هذا المفتي داخل بلاده قولًا له وجاهته في مجتمعه، لكن في الخارج هو ليس أكثر من نكتةٍ لا تثير إلا الشفقة، نكتة يدفع ثمنها المواطن والفرد، وليس الدولة وحدها.
ومن هنا تفسر بعض الآراء هبوب السعودية لحماية البحرين من رياح ثورات الربيع العربي، لأن الأخيرة تمثل الباحة الخلفية للمواطن السعودي من الطبقتين، المتوسطة والمتوسطة الدنيا، لتفريغ حاجته لما هو ممنوع عنه في بلاده من فنون ومتع وغيرها في البحرين، لتظل تلك ساحة السعوديين المسوّرة، للمتع، لكن ليس للسياسة.
يستمر هذا التناقض الذي يتآكل المواطن السعودي حتى النخاع، تاركًا فيه رواسب من الفصام
يستمر هذا التناقض، وصولًا إلى شريحة هامة قادرة على كسره، وهي شريحة المبتعثين، وهم فئة الشبان والشابات الذين ذهبوا إلى خارج الفضاء والزمن البدوي للدولة السعودية الوهابية، وانكشفوا على أشكالٍ من المؤسسات الحداثية في أوروبا وأميركا وأستراليا، وعادوا محملين بصدام هذه الثنائية وتساؤلاتها بين التقدم والتخلف بين تحريم كل شيء بوجود ولي الأمر المنزّه عن كل شيء، وتحليل كل شيءٍ بوجود عقل نقدي وممارسة مؤسّساتية حداثية. هذه الفئة التي اصطدمت برجعية نظامها في الأزمة الأخيرة مع كندا، فلجأ بعضها إلى تقديم طلبات اللجوء السياسي، حسما لهذا التناقض.
لن تلبث حالة التناقض الاجتماعي تلك أن تنفجر داجل جسد المجتمع والدولة، مخلفة من الأثمان عظيمها، وبالذات في غياب مؤسسةٍ بالشكل الإجرائي الذي يمكنه أن يحفظ الحقوق، ويدير الأزمات، بعيدًا عن القبيلة وفضائها، وكذلك غياب مفهوم "الجماعة العضوية السعودية" في ما يتعلق بسؤال الهوية (من هو السعودي؟!)، فانتماء البدوي لقبيلته، وليس لمفهوم الوطن، وبالذات في غياب المنفعة المادية المباشرة.
ولعل نموذجًا مثل نموذج قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، في إسطنبول، كافٍ في سيرورته باعتباره حدثا، وسيرورة خاشقجي فردا من القبيلة خرج عن طاعتها، لعله شارح لتعامل القبيلة مع ابنها، ومع أزمتها، ومع باقي أفراد القبيلة أمام تناقض الداخل والخارج وهشاشة هذا التناقض لما ينتجه من فصام، وفشل، وكذب أمام العالم. في محاولات بعض كتّاب ما تسمى الصحف السعودية رسم حدود كاذبة تاريخيًا للجماعة العضوية السعودية والدولة، هم يدّعون انتسابًا للنبي بالكذب، إلا أنهم، كما يبدو، لم يخطئوا كثيرًا، فقريش لم تمت، ولا الإسلام جبَّ ما قبله.