الحاج أبو صبحي... النّجادة لحفظ ذاكرة فلسطين

04 ديسمبر 2015
المنجّد أبو صبحي (إيمان عبد الكريم)
+ الخط -

بيديهِ الرقيقتين وابتسامته التي لا تفارق وجهه، ينهمك في حياكة الوسائد والشراشف، مستذكرًا سنوات عمره الطويلة التي قضاها في عمله الذي توارثه عن أبيه، يُطرز بالإبرة والخيط قبة الصخرة على وسادةٍ ما، وعلى لحاف آخر خريطةً لفلسطين الحُلم، تمسكًا بأصالة تراثه وانتمائه لهويته ووطنه.

المنجّد الفلسطيني أحد أبرز الحرفيين الذين يعملون منذ القدم في تزيين وتجديد الكنب والشراشف والوسائد، وكافة مستلزمات المنزل، بحرفية وإتقان وجمال كبير، يخطفك من بين أكوام الصوف والخيطان التي ترسم البهجة على ناظرها، هذه الحرفة التي يهددها الانقراض في ظل سطوة الماكينة والآلة التي غزت الأسواق بمنتجاتها.

وهو منهمك في تطريز النقوش التراثية القديمة على وسادة، يقول الحاج أبو صبحي الجمل (63 عاماً) "هذه المهنة التي ورثتها عن أبي هي حياتي وحبي وشغفي في هذه الدنيا، نحن نقوم بالحفاظ على هويتنا وتاريخنا وفلسطينيتنا في نقوشاتنا وإنتاجنا الذي نفخر به"، ويؤكد أن التنجيد اليدوي أكثر دقة، وأجود، بالإضافة إلى الأصالة والعراقة التي تتمتع بها هذه الحرفة.

داخل جدران المشغل الصغير المكسو بالأغطية والقماش والتي يعتبرها أبو صبحي مصدر سعادته، يقول لـ "العربي الجديد" "أهرب من ضجيج المدينة وزحمة الحياة إلى مشغلي، أعيش معها فترات طويلة من يومي مستمتعاً بالعمل والحب الذي أنتجه في كل قطعة أصنعها، هذه الحياة المليئة بالألوان الزاهية والأقمشة الجميلة".

اقرأ أيضا:"كنز" فلسطيني في قبو المنزل

ومن المؤكد جدا أن مهنة التنجيد عرفت تراجعات كبيرة بعد أن طغت على الأسواق المواد المصنعة، وأشكال الأثاث الحديث، لكنها تبقى مرغوبة من قبل عدد كبير من عشاق المنسوجات والمواد المصنوعة باليد وشتى أنواع الحياكة، علاوة على وظيفتها الجمالية، وإسهام مهنة التنجيد في المحافظة على تقاليد وذاكرة البلاد، وعلى إرثها، من أجل مقاومة كل أشكال العدوان على الإرث الثقافي الفلسطيني من طرف الاحتلال، أو بسبب زحف المنتوجات البديلة، التي تحاول أن تمسح الهوية المحلية وتعولم حتى مكونات البيوت وما يوجد خلف الجدران، بعد أن طاولت العقول.

وتواجه مهنة التنجيد عدة تحديات في الوقت الحالي، لعل أهمها، القدرة على الاستمرارية والمنافسة في ظل البدائل الرخيصة المتاحة في السوق.

وتعتمد المهنة على مجموعة من الأدوات الرئيسية مثل الإبرة، والوتر المستخدم لنفش الصوف، و"الكوشتبان" وهي قطعة بلاستيكية أو معدنية تلبس في الأصبع خلال الحياكة والتنجيد، بالاضافة إلى الدباسة وقطع الخشب.

ويؤكد أبو صبحي أن هذه المهنة كانت قديمًا أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، فالمنجّد هو الذي كان يقوم بمهمة تجهيز بيوت الزفاف، ولا يمكن أن يتم فرح من دون وجود منجد يقوم بكافة الأثاث المختص في عمله، يقول: "كنا نذهب إلى بيت العريس كي نعمل هناك، وهذا الشيء كان من ضمن طقوس الفرح والاحتفال، لأنه يضفي البهجة والسرور على أصحابه، كنا نستقبل بالزغاريد والأهازيج والغناء الجميل، أما في الوقت الحالي أصبحنا نعمل في مشاغلنا نظرًا لقلة اهتمام الناس بمهنتنا وعدم إدراكهم حرفية عملنا".
يقوم بعض الحرفيين بتنجيد الفرش واللحف والتي يرون أنها أفضل للصحة، وتمنح الدفء أكثر من الفرش الجاهز، يقول الحاج: "من المؤكد أن الأعمال الجاهزة المصنوعة بالآلات الصناعية الحديثة قد أثرت على مهنتنا بشكل كبير، إلا أن الكثيرين ما زالوا يفضلون الفرش والأغطية الصوفية والقطنية، فما زال الغزيون يقبلون عليها بشكل كبير، وذلك لفوائدها الطبية والصحية للجسم".

وتستذكر الحاجة أم ياسر (78 عاماً) نتف القطن عند الحرفي، وكان ثمن اللحاف في تلك الأيام ربع ليرة بالعملة الفلسطينية قديمًا، حيث أهداها زوجها في يوم زفافهما لحافين وشراشف وخمس وسادات، تحتفظ بها إلى اليوم وتقوم بتنجيدها وتجديدها كل سنة، تقول: "هذه الأشياء من كنوزنا والتي لا يمكن الاستغناء عنها، فهي ما زالت تحمل عبق أيامنا الجميلة ورائحة زوجي الغالي".


اقرأ أيضا:حورية الفار: تراث فلسطين هويتنا
المساهمون