قال الكاتب الفرنسي إدموند جابيس (1912 - 1991) ذات مرة: "منعرجات الفكر لا يمكنها إخافتك، فهي تقتفي دروبنا اللحميَة". وستردّد صدى هذه الكلمات لدى المفكر إيمانويل ليفيناس (1906 - 1995) أكثر من أي فيلسوف معاصر، هو الذي أكد أولويَّة الجسد والمسؤوليَّة الجسديَّة تجاه الآخر على مركزيَّة الكوجيتو في الفلسفة الغربيَّة.
يمثّل فهم ليفيناس للجسد، لا ريب، تحوُّلاً باراديغميَّاً، يتضمَّن معنيين أساسيين على الأقل. أوَّلاً، لا يمكننا النظر إلى الجسد كشيء أو فهمه كموضوع للإدراك. ثانياً، إنَّ الإيتيقا أو العلاقة بالآخرين هي جسديَّة، وفي لغة ليفيناس: "أن تنزع قطعة الخبز من فمك".
إنَّ الجسد، في هذا التصوُّر، أساس تكوين الهويَّة الفرديَّة ومعين الحدث البيشخصي. بل إنَّ العلاقة بالآخرين لا تتحقّق إلّا في صيغة المحسوس. إنَّ الجسد صلتي بالآخرين، أو هو مكان تحقق الحدث الإيتيقي. والعالم - كوجه - يزعزع كياني وعبر ذلك اكتفائي بذاتي، وفي "الاقتراب من الوجه يتحوَّل اللحم إلى فعل واللمسة إلى قول".
يتوجَّب إذن أن نفهم الوجه كمصدر للعلاقة الإيتيقيَّة، فهو الذي يصمد أمام إدراكي، وهو الذي يناديني إلى المسؤوليَّة، وهو الذي يتمنَّع في النهاية على حقيقتي. إنَّه قلق داخل سياسة الوعي، تلك السياسة التي نعرف أنَّها لا تتحقّق غالباً إلّا كفضول وجشع.
إنَّ الآخر كوجه هو النقيض الراديكالي لذلك الآخر الذي أرادته النازيَّة رقماً أو مجرَّد رقم. ففي أوشفيتز سيعوّض الرقم اسم السجين وعبر ذلك جسده، وكما كتب بريمو ليفي في سيرته "هل هذا هو الإنسان؟"، فإنَّ الرقم عوَّض الإنسان في المعتقل ومثَّل المراحل المختلفة لوجوده هناك، من دخوله إليه، ورحيله عنه. إنَّنا نولد ونموت أرقاماً في الكليَّة.
وبغضّ النظر عن الاسم أو السلطة التي تتخذها هذه الكليَّة، وذلك بغضّ النظر أيضاً عمَّا إذا كنَّا واعين بطبيعتنا الرقميَّة ـ طبيعتنا الثانية ـ داخلها من عدمه. إنَّ الرقم يمثل في عبارة أخرى مسحاً للوجه أو للجسد، وعبر ذلك للعلاقة. إنَّ كلَّ فلسفة ليفيناس هي جواب على أوشفيتز، وهي جواب على كلّ إمكانيَّة محتملة لها. ولا يبالغ ليفيناس، وهو يفهم الحساسيَّة كأمومة ويجعل من الجسد "حامل وظهير" الآخر، ويربط بين الجسد والمسؤوليَّة، وسيذكّرنا أيضاً بالعلاقة الإيتيمولوجيَّة بين الرّحمة ورحم المرأة في اللغة العبريَّة، تلك العلاقة التي نعرفها من العربيَّة أيضاً.
إنَّ الدلالة المحسوسة ليست تابعة لقصديَّة الوعي كما هي الحال لدى الفيلسوف الألماني إيدموند هوسرل، بل هي لقاء يتحقّق خارج الوعي أو لقاء من لحم ودم.
وإذا كان كتاب "الكليَّة واللّانهائي" يمثل تكويناً محسوساً ـ جسديَّاً للذات، ويؤكّد أصليَّة الحساسيَّة كمتعة بالنسبة إلى الذات، ضدّ قصديَّة هوسرل المجتثة والمفارقة للعالم، فإنَّ كتاب "غير الكينونة..." يعبّد الطريق من الحساسيَّة التي تتمتعّ بالعالم إلى ذاتيَّة للمسؤوليَّة أو إلى مسؤوليَّة جسديَّة، تتحقّق كفعل حمل للآخر وتحمُّل له. لكنَّ هذا التحوُّل لا يمثل تناقضاً في حدّ ذاته، فوحدها ذات تتمتَّع يمكنها أن تعطي ما تتمتَّع به.
إنَّ المسؤوليَّة غير المشروطة لا تمثل إنكاراً للجسد كمتعة، بل إنَّها تشترط هذا الجسد. إنَّها جسد، إذ وحدها "الذات التي تأكل" يمكنها تحمُّل المسؤوليَّة أو كما عبَّر عن ذلك ستيفان ستراسه في كتابه الموسوم بـ"فيما وراء الكينونة والزمان": "لا يمكن إقامة أيَّة علاقة بين البشر خارج مجال الاقتصاد. وفي العلاقة الإيتيقيَّة يعني ذلك أنَّ الإنسان لا يمكنه أن يلتقي وجهاً بأيدٍ فارغة ولا أن يقترب منه بأبواب موصدة".
أمَّا عند هايدغر، فإنَّ الجسد يظلُّ مرتبطاً بالكينونة ـ في ـ العالم، وبعبارة أخرى بمعنى الكينونة، وليس بالمسؤوليَّة، إذ فقط على مستوى النظريَّة، أو فقط في فهم الكينونة تتأسَّس جسديَّة الدازين.
في سياق الجسديَّة يمكننا فهم اللّغة لدى ليفيناس، هذه اللّغة التي أرادها علاقة بالآخرين وفهمها كنقيض لفعل التكوين والإدماج. إنَّها أكثر من ذات وأكثر من فكر. ولن نجد ما يعبّر عن ذلك بقوَّة أبلغ من كلمات فالير نوفارينا: "إنَّ عضو اللَّغة هو اليد"، وقبيل ذلك سيكتب في لغة تذكّرنا بليفيناس: "الكلمات تسبق الأشياء. في البداية هناك نداؤها. في البداية ليست الكينونة من توجد ولكن النداء. أو الكينونة نفسها لم تكن يوماً سوى أولى الأشياء التي تمَّت المناداة عليها".
إنَّ اليد ليست صانعة الحضارة فحسب، ولكنَّها أيضاً اللّغة الأولى للعلاقة الإنسانيَّة. إنَّها تحملني إلى الآخر، فهي قرب، والقرب حسب ليفيناس قطيعة داخل الوعي. إنَّ اليد كلغة وكتحيَّة، كتحيَّة سابقة أبداً على الكوجيتو، هي علاقة مباشرة بالآخر.
إنَّ اليد تيه. إنَّها الترنسندنتاليَّة بامتياز، لأنَّها تتضمَّن دائماً فعل خروج من الذات. إنَّ اليد ترغب، إنَّها تبتعد، إنَّها نداء الوجه. و"الأيادي أيضاً تقول الصلاة"، يقول ميشيل دو سرتو. وحتى لو لم تكن للصلاة أن تعبّر إلّا عن علاقة بالإله، فإنَّ الأمر يتعلق بلقاء على الأرض، يسبح في العناصر، أو بلقاء هو جسد، وبلقاء يقول ما يعجز العقل عن قوله. ولربَّما للسبب ذاته يشبه جسد الصَّلاة في حركاته جسد المرأة الحامل.