الجزائر... دبلوماسية الأزمات وخسارة المصالح

09 نوفمبر 2015
اتهامات لبوتفليقة باحتكار السياسة الخارجية (فاروق بطيش/فرانس برس)
+ الخط -
دفعت الأزمة الليبية بالجزائر مجدداً إلى محاولة تقديم نفسها كلاعب محوري في منطقة شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، مستغلة الثقل السياسي والاقتصادي للبلاد، فضلاً عن أن الاستقرار السياسي الذي تميّزت به البلاد خلال العقد ونصف العقد الأخيرين، قد دفع ببعض الدول الغربية والهيئات الدولية إلى الارتكاز على الجزائر للعمل على حلول سياسية لأزمات المنطقة في مالي والنيجر وتونس، إضافة إلى الأزمة الليبية التي عُقد بشأنها اجتماع قبل بضعة أيام في الجزائر، جمع مساعد وزير الخارجية الجزائري المكلف بالشؤون المغاربية والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية، عبد القادر مساهل، ووزيري الخارجية المصري سامح شكري والإيطالي باولو جانتيلوني.

لكن على الرغم من أن اجتماعات كهذه تعطي انطباعاً باستقطاب الجزائر لدور محوري في المنطقة، إلا أن قطاعاً واسعاً من النخب السياسية والإعلامية يُوجه بشكل مستمر انتقادات إلى الخيارات الكبرى للدبلوماسية الجزائرية،  التي توصف بأنها ثابتة. ولم تتغير أدوات التعاطي الدبلوماسي في الجزائر إزاء عدد من القضايا والملفات الإقليمية والدولية، على الرغم من التغيرات الحاصلة على صعيد الجغرافيا السياسية والاقتصادية. وتفسّر بعض التحليلات هذا المسار الثابت للدبلوماسية الجزائرية خصوصاً في العقدين الأخيرين، بإمساك الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بكل خيوط الجهاز الدبلوماسي، خصوصاً أنه ظل منذ العام 1963 حتى العام 1979، وزيراً للخارجية الجزائرية.

ومنذ اللحظة الأولى لتسلّمه سدة الحكم في الجزائر عام 1999، أطلق بوتفليقة تعهدات سياسية عدة، أبرزها إعادة الدبلوماسية الجزائرية إلى ألقِها السياسي الدولي الذي شهدته في مرحلة السبعينيات. لكن التطورات الداخلية والإقليمية لم تتح للقيادة السياسية الجديدة في الجزائر فهمَ مسار طويل من التحوّلات الحاصلة، إضافة إلى تراكم ملفات ومشكلات متأتية من عِقد الأزمة الأمنية التي شهدت فيها الجزائر حصاراً وعزلة سياسية خانقة.

كما لم تخلُ بعض مواقف الجزائر بشأن قضايا إقليمية ودولية، من التناقض السياسي الذي لم يجد له تفسيراً في الواقع. ففي حالة مالي، وخلال سقوط مدن شمال البلاد القريبة من الحدود مع الجزائر، كتمبكتو وغاو، في مارس/آذار 2012، في يد الجماعات المسلحة، كتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" وجماعة "الجهاد والتوحيد" و"أنصار الدين" والحركات الأزوادية، وعلى الرغم من تمسّك الجزائر بموقفها الرافض لأي تدخل عسكري وأجنبي في مالي، إلا أنها سمحت في الوقت نفسه للطائرات العسكرية الفرنسية باستعمال أجوائها في عمليات عسكرية ضد المجموعات المسلحة شمال مالي. وهو القرار الذي لاقى يومها رفضاً سياسياً كبيراً من قِبل المعارضة الجزائرية.

وليس الموقف في مالي فقط ما طرح تساؤلات عن خط سير الدبلوماسية الجزائرية، إذ سيطرت حالة اللاسلم واللاحرب بشقها السياسي على العلاقة بين البلدين، التي كانت ترتفع إلى حد يعطي مؤشراً إلى إمكانية تجاوز الخلافات وفتح الحدود البرية المغلقة بين البلدين منذ ديسمبر/كانون الأول 1994، كما حدث في تفاهمات فبراير/شباط 2013، لكنها سرعان ما تعود إلى نقطة الأزمة.

لكن أكثر المسارات الدبلوماسية إثارة للجدل في الجزائر، هو ذلك المتصل بالعلاقة مع فرنسا التي تحكمها مؤثرات تاريخية لا تنفك في إثارة الكثير من الجدل بين الحين والآخر، بسبب تباين الموقف السياسي المعلن عنه في بعض القضايا وبين سيطرة باريس على جزء من الاقتصاد الجزائري والميزان التجاري للجزائر. هذا الأمر يجعل الجزائر تخفق بشكل مستمر في استغلال بعض المواقف للضغط الجدي على فرنسا، كما حدث خلال الثورة الليبية، إذ كانت الجزائر ضد التدخّل الأجنبي الذي قادته فرنسا لإسقاط نظام معمر القذافي، وعلى الرغم من الراحة المالية والاقتصادية التي كانت تعيشها الجزائر حينها بسبب توفر 200 مليار دولار أميركي في خزينتها، إلا أنها لم تتمكن من ممارسة أية ضغوط على الطرف الفرنسي، وخصوصاً أن الجزائر كانت بصدد حساب تداعيات انتشار السلاح الليبي في منطقة الساحل وتأثير ذلك على أمنها واستقرارها الداخلي وعلى الحدود.

اقرأ أيضاً: وزير الخارجية الجزائري: لعبنا دوراً مهماً في الملف الليبي

ويعطي ذلك مؤشراً على أن جزءاً من التوتر في خط السير الدبلوماسي للجزائر لا يتصل فقط بالعقيدة الأمنية، التي تحكم في العادة السياسات الخارجية للجزائر، بفعل سيطرة جهاز الاستخبارات على السلك الدبلوماسي، والاستناد إلى مقرراته في كل خطوة، لكنه يتصل أيضاً بإخفاق الجزائر في استغلال الأدوات الاقتصادية في سياساتها الخارجية. ويبرر محللون ذلك بتمسك الجزائر الشديد بعقيدة دبلوماسية المبادئ على حساب دبلوماسية المصالح، التي تحوّلت إليها كل دول العالم، ورفض الجزائر تكييف معطياتها الدبلوماسية مع مصالحها تحديداً.

ويستدل مراقبون على ذلك بحالة الأزمة في مالي التي تواجدت فيها مجموعات مسلحة على حدود الجزائر، وكان من مصلحة الجزائر التدخل لردع هذه المجموعات حماية لأمنها، لكنها فضلت التمسّك بموقف عدم التدخل. كما تمسّكت الجزائر بالمواقف نفسها على الصعيد العربي والإقليمي، في حالات أخرى كما في الملف السوري، إذ شذت الجزائر عن الموقف العربي بالإبقاء على علاقتها بالنظام السوري، ورفض التدخل الأجنبي بزعم حماية السوريين.

ويعتبر المحلل السياسي بوعلام غمراسة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "مشكلة الدبلوماسية الجزائرية هي استنادها إلى رصيد تاريخي وأدوات كلاسيكية وفكر دبلوماسي تقليدي لم يعد يتماشى مع تطورات الواقع". ويلفت إلى أن ذلك "ينطلق أيضاً من قناعات الخمسينيات التي تحكم العقيدة الدبلوماسية للرئيس بوتفليقة باعتباره ظل وزيراً للخارجية لفترة 16 عاماً". ويضيف غمراسة أن سبب الإخفاقات الدبلوماسية هو وجود "نخبة متنفذة في مركز القرار السياسي والاقتصادي، لا تملك ثقافة وتكوين دولة، لهذا فهؤلاء لا يفقهون في شيء اسمه الدفاع عن مصالح بلد فيسوّقون بدلاً عن ذلك، الدفاع عن المبادئ وهم لا يؤمنون بها في الأصل، ويبيعون الوهم الدبلوماسي والسياسي".

من جهته، يقول الخبير في الشؤون الاستراتيجية، قوي بوحنية، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "السياسة الجزائرية الخارجية محتكرة بيد السلطة الرئاسية بموجب الدستور الجزائري، ولذلك فهي تنتعش وفق دور السلطة الرئاسية". ويوضح أنّ "السياسة الخارجية الجزائرية في السنوات الأخيرة تركّز على الشق الأمني بدرجة كبيرة، وهو ما يمكن تسميته بالدبلوماسية الأمنية من حيث التركيز على قضايا الإرهاب وإحلال الأمن في أفريقيا ومكافحة الجريمة المنظمة وغيرها، وعليه فالجانب الأمني هو الطاغي على حساب الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية".

ويعتبر بوحنية أن "السياسة الخارجية لا يمكنها أن تحقق التقدّم بالتركيز فقط على الجانب الأمني، على الرغم من صوابية وقوة الدبلوماسية الجزائرية في هذا المجال، خصوصاً في حلحلة أزمة مالي ودول أفريقيا ودورها الأمني في ليبيا وتشاد وتونس". لكنه يشير إلى "أنه على الرغم من كل المآخذ التي قد تُطرح على الدبلوماسية الجزائرية، يمكن القول إنها متوازنة وفاعلة خصوصاً في أفريقيا، إذ بات من المؤكد أن الجزائر تملك مفاتيح التأثير في الاتحاد الأفريقي، وتملك قوة التأثير كوسيط محايد في العديد من القضايا الإقليمية والدولية". ويرى بوحنية أن "ما يقوم به السلك الدبلوماسي في شقه الدولي هو التركيز على مكانة الجزائر في التعاون الدولي، ولذلك يتم الحديث عن شراكة استراتيجية بين الجزائر والولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي وفق استراتيجية تؤمن بمحورية الدور الجزائري".


اقرأ أيضاً: اتفاق الجزائر ومصر وإيطاليا لمواصلة المشاورات لحل الأزمة الليبية