الثورة التونسيّة: الممكن وإشكالات التغيير

19 ديسمبر 2015
يمكن اعتبار الثورة التونسية ناجحة مقارنة بباقي دول الربيع(Getty)
+ الخط -
لا تزال الثورة التونسيّة بأحداثها الأولى وإرهاصاتها العميقة حاضرة بقوة في الشارع التونسي، بوجهات نظر مختلفة وقراءات متناقضة أحياناً.


لم يكن للثورة زعيم كما لم يكن لها برنامج واضح منذ البداية، إلاّ أنّها استطاعت أن تخرق "القديم" وتخترق الخوف الذي سكن قلوب الملايين في تونس تحت مسمى "الاستقرار".

يعتبر البعض أن غياب الزعامة السياسية في الثورة التونسية كان أحد أهم عوامل نجاحها، إذ ساهم هذا المعطى في توحّد "الثوار" تحت سقف وطني اجتماعي وعزّز لحمتهم في مواجهة آلة القمع النوفمبريّة.

كما أنّ غياب الزعيم استبعد إمكانيّة استبدال الدكتاتور العميل بدكتاتور ثوري، وهو ما حدث في جلّ التجارب الثوريّة السابقة التي تزعّمها حزب أو شخص أو جهة ما.

واعتبر آخرون أنّ غياب مخطط مسبق للتغيير وعفويّة الحراك الثوري ساهما في إرباك النّظام وأسّسا لتحرّكات كبيرة على أرضيّة مطلبية واسعة تسع الجميع.

كنت أشارك بشكل يومي في التحرّكات مع الجماهير الغاضبة، وزاد لوعتي سقوط أحد أقاربي شهيداً برصاصة غدر على مستوى الرأس.

تأكّدت من ضرورة إسقاط النّظام وتيقّنت من أهمّية مواصلة الحراك رغم صعوبة المواجهة وظلم الموازين، ولكنّني لم أنتبه بتاتاً إلى أنّ لحظة الهدم قصيرة مقارنة بساعات البناء، وأنّ جهد التغيير والإصلاح يمثّل أضعاف جهد إسقاط نظام ما. ولعلّ المسألة لم تكن تتعلّق بالانتباه بقدر ما تعلّقت بانغماسنا في حلم إسقاط النظام ولا غير .. النظام الذي قتل الناس والحياة في بلادنا واستولى على مقدرات شعبنا وجعل منها ثروة للعائلة الحاكمة.

لقد كانت أهمّ عوامل نجاح الثورة التونسية من غياب الزعيم والبرنامج أحد أهمّ عوائق الإصلاح ما بعد اللحظة الثوريّة. ولذلك سرعان ما تحوّل ثوّار الميادين الى الصفوف الخلفيّة في اللحظة السياسيّة، وتصدّرت المشهد نخب قديمة بتحليلات نظرية بالية وقدرات عمليّة ضعيفة وحمولة زائدة من الايديولوجيا، فكانت تمارس شكلاً من أشكال "الفانتازيا" السياسيّة.

إنّ عمليّة التغيير والإصلاح الوطني كانت تتطلّب أساساً إصلاحات جذريّة على مستوى النخبة التونسيّة، التي تتأرجح بين العمالة والعطالة (السياسية).

وزاد الطين بلّة تقدّم أضعف حلقة في موازين القوى السياسيّة لحكم تونس، في ظلّ فوضى اجتماعيّة وعدم استقرار سياسي ومخططات لاستيعاب التغيير الديمقراطي.

لقد كان فوز الطرف الإسلامي في الانتخابات الأولى إبّان الثورة كسباً لأصحاب التّدبير من أعداء الثّورة والتغيير، المدركين لتبعات تصدّر الإسلاميين الحكم وحجم العراقيل التي سيتعرضون لها، ذاتياً وموضوعياً، داخليّاً وخارجيّاً.

ورغم سعي حركة النهضة لسدّ الفراغ السياسي، إلاّ أنّها لم تكن لتستطيع أن تستجيب لمستحقّات الحراك الثوري رغم ادعائها ذلك، فبالكاد كانت تستطيع أن تثبت وجودها وجدواها في واقع سياسي اقليمي ودولي كان يعتبرها خارج إطار منظومة الدولة الوطنيّة الحديثة.

بقدر ما كان صعود الإسلاميين للحكم ضرورة ثوريّة في إطار المتاح والممكن السياسي، إلاّ أنّه كان مدخلاً أساسياً للثورة المضادّة التي نجحت النهضة في تونس في ترويضها نسبيّاً وعجز إخوان مصر عن مواجهتها.

يمكن اعتبار الثورة التونسية ناجحة مقارنة بباقي دول الربيع وبما حققته من مكاسب خاصة على المستوى السياسي، إذا ما نظرنا إلى ظروف ومخططات الفشل والإجهاض.

ولكن تبقى إشكالات التغيير العميق عالقة لارتباطها بالقيود المسلّطة على النّخب الحاليّة، التي وإن تعدّدت السهام الموجهة إليها لم يكن هناك بديل جاهز عنها.

إن تحويل الفكرة الثوريّة إلى فعل سياسي منجز يفرض على الجيل الجديد والقيادات الشابّة أن تتقدّم وتناضل من أجل الدّفع بتجديد النخبة والطبقة السياسيّة وتحوّل المعارك إلى وجهتها الصحيحة، حيث يطرح سؤال الأمن والاقتصاد والرفاه الاجتماعي في دولة المواطنة والديمقراطية.

(تونس)
المساهمون