يذهب كثيرون إلى القول إن الترجمة لا تزدهر إلا في المجتمعات التي تسمح بالترويج لأفكار دخيلة أو غريبة، وتَعرف التَّنوعَ أو نوعًا من التفتح وقبول الآخر، أو شكلاً من أشكال الديمقراطية، بل هناك من يرى أنّها نشاط حِكر على المجتمعات الديمقراطية دون غيرها، ولا يُمكنها أن تزدهر وتتطور إلا في تلك المجتمعات.
يبدو أن هؤلاء ينسون أنّ النشاط الترجمي هو مغامرة في حد ذاته، لا يكتفي الخائضون فيه بالتطلّع إلى إيصال كِتاب إلى مجتمعهم، وخلق قاعدة له منَ القرّاء واسعة، وإنما يكون همّهم أكبر باستهدافهم التعريفَ بفكر مختلف والترويج له، ولتَمَثُّلهم الترجمةَ بصفَتها "ترجمةً للتفكير في العصر الذي تأتي منه -وفق شارل لوبلان- قبل أن تكون ترجمةً لنص من النصوص"، لأنهم يُراهنون على تغييرِ واقعِهم وإحداثِ انعطافٍ في معيشه وذهنيّته.
ويكفي استحضار المجازفة التي خاضها كثير من التراجمة قديماً، في المجتمع الغربي، وعلى رأسهم مارتن لوثر الذي ترجم الإنجيل إلى الألمانية، وما جلبه له فِعله من متاعب، أو مآل مترجمين فعلوا مثله فكان السجن أو القتل أو الحرق مآلَهم، نظراً إلى اجترائهم على ترجمة الكتاب المقدَّس نفسه، أو ترجمة كتب أخرى من اللاتينية إلى اللغات المحليَّة.
ويقود فهم الترجمة انطلاقاً من هذا المنظور إلى اعتبارها مغامرةً لا تقف عند قضايا تقنية أو أسلوبية فحسب، بل تتعدى ذلك إلى النظر إلى هذا النشاط من وجهة ثقافية وفلسفية ووجودية وحتى أخلاقية، لأن حال "الترجمة -وَفق شارل لوبلان- هي أولاً وقبل كل شيء مسألة تخصّ الهوية، وأن الانفتاح على الآخر في الترجمة لا يكون له أيّ معنى إذا لم تُمتلك هوية الأصل". لهذا يتراوح الموقف من الترجمة بين الحفاظ على الهوية من جهة والتمكّن بأمانة من تَمثُّل هوية النص الصادر عن الآخر.
لا يغيب عنّا أن الأصل في النص المترجَم أنه غريبٌ أو منفيّ، يُغادر تربَته مُحمّلاً برؤية للعالم ومُشبعًا بثقافة تجعل منه آخر، لِيَفِد على أرض جديدة، وأنه قد يكون نصاً تائهاً أو مهاجراً أو مسافراً أو باحثاً عن قارئه المناسب، أي عن ملاذ يلجأ إليه، وعن قارئ مجهول دوماً، مثلما يَطمح أيّ نصّ أثناء بحثه عن ذاته -وفق والتر بنجامين- إلى العثور على مُترجمه البارع الذي يفترض أن يضمنَ له حياةً أخرى في لغةٍ أخرى، وأن يتخطّى صفةَ النسخة أو الصورة ليكون أصلاً في ذاته هو الآخر، وهي الحال التي عبّر ميلان كونديرا في "خفة الكائن التي لا تُحتَمل" لمّا أشار إلى علاقة المؤلِّف بمُترجمه هو الآخر، فاستحضر أسطورة أفلاطون في "المأدبة"، التي مفادها أنّ الخنثى كان أصل البشر قديماً، وأنّ الإله شطره نصفين، هما منذئذ يتوهان عبر العالم ويبحثان عن بعضهما. وأنّ الحبّ هو الرغبة في عثور كلِّ نصف على نصفه الآخر التائه عن ذاته.
سِمةُ النصّ المترجَمِ أنْ يَحْضُرَ مُفترِضا أنه سيُستقبَل بالامتنان والإقرارِ له بالفضل، لكنّ وقائع تاريخيّة أثبتت نقيضَ ذلك، ولعل حال ابن المقفع مع ترجمته لـ "كليلة ودمنة" أبلغ مثال على الجحود ونكران الجميل. ويبدو أن التنكر للضيف والتَّنكب لعُرف ضيافته يُردّ إلى خوف الثقافة المُستقبلة من إقامته الدائمة بين ظهرانيها.
وعلى الرغم من ذلك فإن الاحتفاء بحلول الغريب يُنجَز عبر قراءته، وهو فعل يعدّ وليمةً يُقري بها القارئ النصَّ الوافد، فتصير القراءةُ أي اللقاءُ بالغريب اعترافاً بالآخر وإعراباً عن الاستعداد للقاء به، وعن الرغبة في استضافته في اللغة الحاضنة، وَمَنحِه شروط الضيافة جميعها التي يُفترض أن تُقدّم في حمى له أعرافه وضوابطه وهويّته، فنعلن عن كرم ثقافتنا، ونؤكِّد دون تهيّب شجاعتنا الأدبية ووعينا بأننا نحضر في هذا العالَم ونبنيه ونراه عبر الترجمة، لأن قَدَرَنا –حسب بول إنجل Paul Engle- هو الترجمة، وإلا فالزّوال مآلنا.