خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، تزامناً مع التطور التقني الإلكتروني، وحصول كل المواطنين في دول الشمال الأوروبي على صندوق بريد إلكتروني، تراجع دور البريد التقليدي، خصوصاً في مجال تبادل الرسائل، بين المواطنين أنفسهم أو مع مؤسسات الدولة.
ورغم ذلك ما يزال للبريد دور في حياة سكان إسكندنافيا ودول الشمال، وإن تغير عما كان عليه سابقاً، خصوصا بعد اندماج مؤسسات البريد والتلغراف الوطني لتصبح مؤسسة "بريد الشمال" (POST NORD). ومع إغلاق مكاتب وفروع عدة للبريد في قرى ومدن هذه الدول، تحول استلام البريد، كالطرود على وجه الخصوص، إلى متاجر (سوبرماركت) معينة بالاتفاق مع البريد.
ورغم تسريح الدنمارك مئات عمال البريد، خصوصا سعاة البريد، فإن رؤية ساعي البريد لا تزال ممكنة في صباحات مدن وقرى عدة. فالدنماركيون، وفقا لأرقام مؤسسة "بريد الشمال"، أرسلوا عام 2016 ما يقارب 460 مليون رسالة، ويعد ذلك تراجعا عن عام 1999، إذ سجلوا إرسال نحو 1.4 مليار رسالة، ما اعتبرته أزمة يُخشى أن تنهي خدماتها العريقة.
ويعود تأسيس البريد في الدنمارك إلى فترة حكم الملك كريستيان الرابع في عام 1624، بقرار جعل توصيل البريد بين الدنماركيين عبر 9 طرق، وشملت إحداها عربة البريد الأهم في مسار كوبنهاغن - هامبورغ (ألمانية اليوم وكانت تابعة الدنمارك في ذلك الحين).
وكان توصيل البريد بين شرق البلاد وغربها في ذلك الزمن، وما تبعه من قرون، بحسب ما يفيد متحف البريد الدنماركي، يأخذ في المتوسط 5 أيام. وكان توزيع البريد يتم في طرق محددة ينتظر فيها الناس خيالة البريد ليتسملوا رسائلهم والطرود. وطورت الخدمة في ما بعد، باتباع فرز البريد وفقاً للعناوين بحسب الرمز البريدي لكل قرية (مهما صغرت) ومدينة وإقليم.
وفي سنوات ما بعد 1640 عيّن في نواحي الدنمارك ما يسمى "مدير البريد"، وكانت مسؤوليته في كوبنهاغن تشمل دواما لساعتين في سوق الأوراق المالية. وكان يمنع على هؤلاء المديرين تناول الكحول خلال عملهم، إذ قرر الملك كريستيان أن مصالح الناس في تبادل الرسائل تستدعي "وجود موظفين رصينين ويكدحون في خدمة الناس والتجار، مع تعيين الفرسان للقيام بالمهمة". وسميت سنوات كريستيان الخامس، الذي ورث عرش أبيه، بـ"العصر الذهبي الدنماركي"، وكانت تحت تاجه دول أخرى كالنرويج وأيسلندا وأجزاء من مملكة السويد وشمال ألمانيا.
وكانت مداخيل البريد تذهب دائما للقصر الملكي في كوبنهاغن الذي أنشأ أيضا مؤسسة خاصة بالبريد تذهب أرباحها لدعم المتقاعدين ولعمليات التبشير الديني خارج البلد، وخصوصاً في جزر الهند الغربية التابعة للدنمارك حتى القرن الماضي. ولجعل الأمر أكثر مهنية حدد القصر لباساً موحداً لسعاة البريد من اللونين الأحمر والأصفر في 1711.
تطور مؤسسة البريد
ما ميّز بريد الدنمارك عن غيره في فترة مبكرة أنه مارس منذ عام 1806 ما يمكن أن يسمى "ناشر أخبار"، فإلى جانب قيامه بنقل الجرائد التي كانت تصدر في تلك الأيام بين أطراف البلد، كانت مكاتب البريد مكاناً يجمع المواطنين للنقاش ومعرفة الأخبار وقراءة الصحف. ويضم المتحف البريدي صوراً من ذلك الزمن لنحو 17 مكتباً رئيساً. ومنذ 1860 أصبحت منتشرة في كل المدن، وهو العام الذي سجل ترقيماً لكل المنازل.
وكانت الدنمارك سباقة في دول الشمال لجهة استخدام الطوابع البريدية منذ الأول من إبريل/نيسان 1851، (وكانت بريطانيا أول من استخدم الطابع البريدي في 6 مايو/ أيار 1840)، مع نصب أول صناديق بريد في شوارع معينة بالدنمارك. وبات المواطن قادرا على رمي رسالته في الصندوق بدل التوجه بها إلى مكتب البريد. وشهد عام 1936 ولادة البريد السريع في الدنمارك من خلال استعمال الطائرات، أي البريد الجوي، رغم توقفه في فترة الحرب العالمية الثانية.
تطور البريد الدنماركي في تسعينيات القرن الماضي بإقلاعه عن تجميع البريد في منطقة فرديريسيا (وسط غرب البلد) لفرزه بعد تجميعه من القطارات، إلى فرز إلكتروني ضوئي بناء على الرمز البريدي. ومنذ 1995 أصبحت مؤسسة البريد مؤسسة عامة مستقلة مملوكة من وزارة المواصلات التي تعين مديراً للمؤسسة. لكن في عام 2005 باعت الوزارة 22 في المائة من أسهم البريد، وفي أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه وقعت حكومتا الدنمارك وبلجيكا اتفاقاً بتملك الأخيرة 49 في المائة من أسهم البريد الدنماركي.
وعلى الرغم من تراجع إرسال الرسائل، وتركيز البريد على إرساليات الطرود والصناديق، إلا أن مشهد ساعي البريد لم يختف من شوارع الدنمارك. ورغم أن عام 2009 شهد اندماجا بين بريد السويد والدنمارك وأصبح "بريد الشمال"، ما يزال البريد يهيمن على المراسلات الداخلية، عبر شبكات توزيع تشمل مراكز محددة في متاجر كبيرة، ويحتفظ بمكاتب مختلفة تستقبل وتبث المراسلات من خلال أكثر من 1100 مكتب حول البلاد.