البريد التقليدي يتوارى في فرنسا... وشعار اليوم "أهلاً بالربح"

09 أكتوبر 2018
البريد الفرنسي إلى عالم المنافسة مع المصارف(فريد تانو/فرانس برس)
+ الخط -

يحظى البريد في فرنسا بتقدير واحترام كبيرين، إلى درجة أن سعاة البريد، يتلقون حفاوةً وتكريماً ومساعدات مادية من الناس. وهو تقليدٌ حميم، لا يحظى به سوى رجال المطافئ وعمّال النظافة. لكن التطور غيّر ويغيّر الأشياء والتقاليد، بما فيها البريد الفرنسي.

فقبل سنوات عدة، لم يعد البريد الفرنسي مؤسسة عامة، بل تخصخص وأصبح مصرفاً (المصرف البريدي)، مع ما يستوجبه ذلك من إكراهات الفائدة الفورية، على حساب خدمة المواطنين.

ويشهد الفرنسيون، خصوصاً في الأرياف، مراكز بريد كثيرة كانت توفر لهم خدمات تغلق أبوابها الواحد تلو الآخر، بدعوى أنها غير مربحة، وأن بالإمكان ارتياد مركز آخَر في بلدة مجاورة. وبدأت بعض المتاجر، ومنها مراكز بيع السجائر والجرائد، تتحمل الحد الأدنى من هذه المهام.

كذلك بدأت تنقرض صورة ساعي البريد، وهو يسلّم المواطن رسالة، قد تكون حاملة لمسرّات، أو بريداً مُحزناً. وبدأت تختفي صورة ساعي البريد الذي كان يُبادل المواطن فرحتَه، ويُعزيه حين يلزم الأمر، خصوصاً كبار السن، والأشخاص الذين يعيشون وحيدين ومنعزلين. والحقيقة، وهو ما يعترف به كثيرٌ من هؤلاء الكهول، أن زيارة ساعي البريد كانت تكسر عزلتهم، وتنبئ الآخرين من متلقي رسائلهم بأنهم ما زالوا على قيد الحياة.

ولا يقتصر الأمر على القرى والأرياف في رؤية مراكز بريد تغلق أبوابها، وبالتالي تغيب معها خدمات كان يتصورها كثيرون أبديّة وغير قابلة للانقراض، بل يحدث الأمر حتى في أحياء كثيرة داخل المدن، بمبررات كثيرة، لكن أهمها المبرر الاقتصادي والربحي.


ليس المواطن الفرنسي هو الخاسر الوحيد مع هذه الخصخصة الكاسحة، بل أصبح الموظفون ضحايا للتنافُس أيضاً، خصوصاً أن البريد أصبح مَصرفاً، وشركةً للتأمين أيضاً، ما يستوجب من العامل/ الموظف أن يكون أكثر فعالية وإنتاجية، وهذا أدى إلى بروز ظاهرة انتحارات غير مسبوقة بين الموظفين (لا تجد نظيراً لها إلا عند رجال الشرطة) وارتفاع نسبة الانهيارات العصبية بينهم، وهو ما أثار قلق الدولة والنقابات.

وأصبح ساعي البريد، الذي كان يُستَقبل بالأحضان من قبل المواطنين، بسبب عمله وقربه منهم، يُخشَى الآن على حياته بسبب شدة الإرهاق وطول ساعات العمل. وأصبحت مكاتب البريد، حيث كان المواطن يحظى باستقبال مَرِح من العاملين، تزدحم فيها الطوابير اللامتناهية، وشغل الموظفين الشاغل هو كيفية استثمار أموال الزبون، وإغوائه بمختلف التأمينات للبيت والسيارة والحياة، مثلها مثل المصارف الأخرى.

لا أحد يعرف كيف سيصبح البريد غداً. لكن المؤكّد أن ساعي البريد بمهامه الكلاسيكية سيغيب. وتشير تقديرات حكومية إلى أن عدد الرسائل التي ينقلها سعاة البريد ستنخفض إلى النصف عام 2020، أي بعد أقل من سنتين فقط.

صحيحٌ أنّ الرسائل لم تعد كلها تصل عبر البريد كالسابق، لأن البريد الإلكتروني اجترح المعجزات، لكن كبار السنّ الذين ظلوا أوفياء للبطاقة البريدية والرسالة التقليدية، يشاهدون عالَم تواصلهم التقليدي، بكل ما يحمل من تفاصيل خاصة ورومنسية، يتوارى شيئاً فشيئاً.

من النادر أن تجد مراكز بريد تحتفل بهذا اليوم، فهي مشغولة ببيع منتجاتها، ومنها قِطع اليورو الفضية والذهبية، وكأنّ المواطن/ الزبون أصبح مسلِّماً بهذه المستجدات. لكن تسامح الناس مع سعاة البريد لا يزال كبيراً رغم كل الانتقادات التي يمكن أن تصدر في لحظة غضب. وهو ما تعبر عنه مواقع إلكترونية عدة، احتفلت بهذا اليوم على طريقتها، واستعرضت تغريدات لا تخلو من مرَح، تقول إحداها: "أنتَ تقدِّمُ طلبية من الصين، تمر من خلال ما يقارب 237 شركة مختلفة، تسافر عبر القطار ثم الدراجة الهوائية ثم العَرَبة. تَعبُر قارة بأكملها دون أدنى مشكلة حتى ينتهي بها المطاف ضائعة على مقربة 3 أمتار من بيتك، لأن ناقلها لم يقرع الجرس".

البريد تغيّر، كما تغير المجتمع كله، والحنين إلى أشياء كانت ممكنة في الماضي، ولم تَعد موجودة، من طبيعة البشر، والفرنسيون منهم.​