البرنس

20 مايو 2020
+ الخط -
سنواتٌ طويلةُ مرّت، قبل أن أكتشف مقدار حبِّ جدِّي لأمِّي لي، وكيف كان يُؤْثِرُني على جميع الأحفاد. قد تمضي حياتُك، وأنت لا تعرف مشاعر الآخرين نحوك، وقد تعرف، ولا تفيهم حقَّهم. وهذه كارثة، وسينالك تأنيب الضمير، في ما بعد، ويلازمك ما حييت، فدائمًا هناك الحكاية الصغيرة المعتادة في كلِّ بيت، الأمُّ التي تُؤْثِر ابنًا على الأبناء، أو الأب الذي يقرِّب منه أصغر الأولاد، فيما تنهش الغَيْرة قلوب الآخرين، وقلَّةٌ من يتقبَّلون ذلك بصدرٍ رحب. وهناك الجد، أو الجدَّة؛ فاكهة البيوت العربية، حيث يُمضي أحدهم، أو الاثنان معًا، ما تبقّى لهما من عمر في البيت، ويشاركان الوالدين في تربية الأحفاد، وفي هذه الفترة القصيرة، بالذات قبل أن يرحلا، كنّا نعيش أجمل حالة لجوءٍ في التاريخ، حين نحتمي بظهر الجد، أو الجدّة، من عقاب الأم، أو الأب.
سنواتٌ طويلةٌ مرّت، قبل أن أعرف أن جدّي لأمِّي كان يحبُّني حبًّا جمًّا، وقد كان يخصُّني بأشياء بسيطة؛ لأنه كان فقيرا، ولكني كنت أحبُّ هذه الأشياء التي تميِّزني عن باقي إخوتي، وعن باقي الأحفاد. ولكن بعد مرور سنوات على وفاته، روت لي سيِّدة من قرابتنا أن جدِّي كان يربِّي خروفًا صغيرًا؛ حتى إذا ما كبر، ذبحه صبيحة عيد الأضحى، وحين يسلخه، ويفتح بطنه، فهو يسحب قلبه من بين الأحشاء ويلفُّه، ويقول: القلب للقلب. ويقصدني أنا بذلك، فيحمل القلب، وبعض اللحم، إلى بيتنا، ويناوله لأمِّي من دون كلام، وتدسُّه أمِّي في البرَّاد، ولم أكن أعلم أنني قلبُ جدّي، حتى وقت قريب.
إذن في كلِّ بيت، هناك البرنس الذي يحتل القمَّة في المحبَّة، والبرنس هو اللفظة العامِّية لكلمة أمير بالإنكليزية. ولكن هناك الحقد على الشخص المميَّز، في كلِّ زمان ومكان، ولذلك ليست مفاجئةً قصة المسلسل الذي يعرض في رمضان الحالي "البرنس"، والتي تداولها رُوَّاد مواقع التواصُل الاجتماعي، وهي قصةٌ من القرآن الكريم، مع إضافة لمسات، مثل البهارات، ترضي ذوق الجمهور، هذه الأيام. وقد أقرَّ مؤلِّفُ العمل ومخرجه، محمد سامي، أنَّ القصة، فعلًا، مأخوذة من قصة يوسف عليه السلام، حيث آثره أبوه يعقوب على باقي إخوته، والنتيجة أنهم كادوا له، وأَلْقَوْهُ في غيابة الجُبِّ، ثم دارت به الأيام؛ فلم يمت، كما توقّعوا، وتمنَّوْا، بل أصبح ملك مصر، وساعدهم، حين ساء حالُهم.
لا أحد يعرف سرَّ "البرنس"، في كل بيت، ولكنه موجود، وقد قال الرسول، صلى الله عليه وسلم: "اللهم هذا قَسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك"، فالإنسان، بالطبع، لا يملك قلبه، ولا مشاعره. ولذلك الأب والأم مهما حاولا أن يعدلا، فهما يخصُّان أحد الأبناء بالمحبَّة الزائدة، وغالبا ما يكون ذلك للأكبر، أو الأصغر المدلَّل، وقد يكون للابن الذي يمتاز بالذكاء والفطنة، ويكون حاضرًا، عند كلِّ طلب، ويتعامل مع والديه، ومع الجميع، منذ صغره، على أنه كبير. وبالتالي، هو كما كانت تصفني جدّتي بأنني "أبلِّل ريقها"، أيْ أنَّني أقوم بكلِّ ما تريد، بمجرَّد أن تشير، أو بلمحةٍ من عينها، ومن دون أن أتعبها؛ لكي تشرح وتفسِّر، فأنا بالطبع أعرف مكان الإبريق الفخَّاري المشقَّق الحافَّة الذي تشرب منه، وتخفيه عن أفواه الأحفاد، تحت سريرها المعدني الذي يُصدر أصواتًا أحفظها، حتى اليوم، حين تتقلَّب فوقه جدّتي، ويخبرني أنها تغطُّ في نوم عميق، أو أنها على وشك أن تستيقظ.
"البرنس"، مسلسل هذا العام، يلعب على ثيمة الابن المُقرَّب، وما جناه، بسبب هذا القُرب من حقد الإخوة. والواقع يقول إن الإخوة قد يكيدون بعضهم للبعض الآخر، فالتاريخ زاخر بالقصص، بدءًا من قصة هابيل وقابيل، ابني آدم، ومرورًا بقصة أبناء يعقوب. ولكن المبالغ فيه، وما ينتظرنا أنَّ برنس هذا الزمان لن يسامح، ولن يغفر، فالمشاهدون انتظروا بشغف، خروج البرنس من السجن؛ لكي ينتقم من إخوته الذين كادوا له، وهذا ما يحدث حتى نهاية الحلقات. لقد تغيَّر الزمان، يا رفاق، فالبرنس هذه الأيام هو محمد رمضان.
دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.