27 أكتوبر 2024
الاستقطاب وانقسام الذاكرة الوطنية المصرية
جاء مقال سابق لكاتب هذه السطور في "العربي الجديد" على إقحام بعضهم انتصارنا، نحن المصريين، العسكري في معركة العبور المجيدة (6 أكتوبر 1973) في الأزمة السياسية المستحكمة الحالية، بهدف المكايدة وتصفية الحسابات السياسية، بطريقةٍ تحمل حماقة ونزَقاً، كونها ليست موجهّة إلى حقبةٍ بعينها أو نظامٍ حاكمٍ، بقدر ما تحمل تشويهاً كبيراً لمعالم ذاكرتنا الوطنية، وتؤدي إلى أجيالٍ تعاني من انقسام ذهني، واستقطاب في وعيها الجمعي، وذاكرتها التاريخية.
وبإمعان النظر في خلفيات هذه المعارك الجدلية، نجد أنها تعود، في جذورها، إلى الاستقطاب الإسلامي - العلماني الذي خيّم على المجال الفكري والسياسي المصري منذ عقود طويلة، وضرب بجذوره في أعماق العقل الجمعي لتيارات الجماعة الوطنية المصرية، إلى درجة الاختلاف الكامل في رواية الأحداث التاريخية المفصلية.
فمن المفترض أن يكون الخلاف بين التيارات الفكرية بشأن قضايا فرعية، تتعلّق بتصوّر كل تيار لنموذج النهضة الذي يسعى لبنائه، أو في معايير توليفة العناصر الحضارية المستخدمة في تشييد البنية النهضوية لمصر، وما يتصل بالأسسّ الأيديولوجية والفكرية التي يقوم عليها كل تيار، ومدى أولوية القضايا الأولى بالنظر والمعالجة، وهل تكون الأولوية لقضية الحقوق والحريّات، أم لقضية العدالة الاجتماعية، أم للموقف من التغريب والمرجعية الحضارية للمجتمع، أم للوحدة العربية وتعميق التواصل مع محيطنا الإقليمي؟
ولكن، من المفترض أن تكون هناك أرضية وطنية مشتركة، تقف عليها جميع "مدارس الفكر والعمل"، وفق مصطلح المُفكّر الراحل أنور عبد الملك، متمثّلة في حزمة المبادئ التي تشكّل القاسم المشترك لكل الفصائل الفكرية والسياسية، والتي يجتمع عليها ما أسماه المؤرّخ طارق البشري "التيار الأساسي للأمّة".
بيْد أنّ الاستقطاب في الحالة المصرية تجذّر بصورة أفدح، ووصل في عمقه إلى درجة الاختلاف الشديد حول تقييم فصول تاريخ الحركة الوطنية المصرية، والاختلاف الشديد أيضاً بشأن رواية أحداثها، وما ترتب عليه من الموقف حول أشخاصها، إلى درجة أننا وجدنا أنفسنا أمام روايتيْن تاريخيتيْن، تختلفان اختلافاً شديداً في العناوين، والتفاصيل، لكلٍ من التيارين، الإسلامي والعلماني.
معروف أن لكل حقبة تاريخية خصوماً أو معارضين، يحملون نظرة تقييمية مغايرة لنظرة
الموالين أوالمؤيّدين، فيما يتعلّق بالعلّة والمعلولات، وبالتالي، فهي تحمل رواية تاريخية تختلف عن الرواية الأولى، في بعض التفاصيل الفرعية، أو حتى كلها. ولكن، لا يمكن بأي حالٍ أن يصل الاختلاف إلى درجة الاختلاف في العناوين الرئيسية، فكيف إذا ما وصل هذا إلى درجة الرفض المُطلَق، والإدانة الكاملة التي وصلت، أحياناً، في شدّتها إلى درجة التصفية المعنوية أو"الشيطنة"؟! ما يؤدي، في المحصّلة النهائية، إلى وجود ذاكرة وطنية "موازية"، تحمل سردية تاريخية مغايرة لفصول التاريخ الوطني.
فقد حرصت الرواية الرسمية "الدولتية" لتاريخنا الحديث على إقصاء الإسلاميين، وإخراجهم خارج إطار الذاكرة التاريخية الوطنية، واعتبرتهم طرفاً دخيلاً، لا أصيلاً، في صورة المشهد التاريخي، أو مجرّد نبت غريب في التربة الوطنية، حيث خلت المناهج الدراسية من أي ذِكر أو إشارة لهم، وكأنّهم شبح أو طيف عابر، وامتدّ هذا إلى أعمال بعض المؤرّخين "المؤدلَجين" من ذوي الأصول الفكرية العلمانية في نسختها المتطرّفة، أمّا الأنكى فهو امتداد تلك الطريقة الإقصائية إلى الأعمال الفنية ذات الطابع التاريخي، فهي إمّا أغفلت ذِكرهم تماماً، أو صوّرتهم صورة تخلو من الموضوعية.
واعتمد الإسلاميون "التقليديون" رواية تاريخية "موازية"، ذهبت إلى أن التاريخ ليس تاريخ الوطن، بقدر ما هو تاريخ الجماعة/ التنظيم، وقامت في أساسها على نموذج تفسيري "مؤامراتي"، لفصول التاريخ الوطني، جنح دوماً إلى تفسير الوقائع التاريخية بعقلية "مؤامراتية"، ذات نزعة قطعية قامت على الثنائية الصراعية (الحق - الباطل)، صورّت الأحداث المفصلية في تاريخنا الحديث مجرّد "مؤامرات"، صاغتها القوى الاستعمارية (الباطل)، بمشاركة أطراف داخلية (بقصد أو من دون قصد) استهدفت الهوية الحضارية، أو قطعت الطريق على تمكين الشريعة (الحق) الذي مثّلته "الجماعة"، في بعض الأحيان.
قد يتفهّم المرء اختلاف السردية التاريخية لبعض الإسلاميين عن الحقبة الناصرية مثلاً، نظراً للصدام الكبير الذي وقع بين نظام يوليو 1952 وجماعة الإخوان المسلمين، في وقت مبكّر من نشأته، والتي نتجت عنها إشكالية كبيرة، وأزمة طويلة ذات طابع صراعي، امتدت عقوداً بين الطرفيْن، ما زالت فصولها جارية، وللطريقة الإقصائية، والتي وصلت أحياناً إلى درجة استئصالية، تعاملت بها دولة يوليو 1952، على اختلاف عهودها، مع الإسلاميين، فقد نظرت لهم دوماً بعيْن الشكّ والريبة، وكان سوء الظنّ حاضراً ومُتبادَلاً من الطرفيْن، وكانت محصّلته أن حرصت دولة يوليو منذ نشأتها على إقصاء الإسلاميين، وإبعادهم تماماً عن مؤسسات الدولة العسكرية، والأمنية، والقضائية، بل والإعلامية، والثقافية.
لكنّ العجيب حقاً هو امتداد تلك السردية "الموازية"، بطول التاريخ الوطني الحديث، بدءاً من عهد محمد علي، ونهاية بثورة 1919 المجيدة، حيث وقفت كثير من أدبيات الإسلاميين موقف الإدانة الكاملة من محمد علي ومشروعه، ورأته مشروعاً تغريبياً بالأساس، وضع بذور التغريب في التربة السياسية والاجتماعية المصرية (!).
كما انتهجت تلك الكتابات النهج نفسه مع ثورة 1919، حيث رفضتها كلية، بموضوعها،
وبزعاماتها (سعد زغلول باشا ومصطفى النحّاس باشا)، وتنظيمها السياسي (حزب الوفد)، فرأت في ثورة 1919 تدشيناً للمشروع "العلماني"، بقيادة شخصيات "علمانية"، أسسّت حزباً "علمانياً"، جنح إلى التغريب، وتبني القيم العلمانية، وتنكّر للهوية الحضارية الإسلامية (!).
يعود هذا إلى حالة الشكّ والتوجّس العميقة التي حملها الإسلاميون "التقليديون" تجاه شعار "مصر للمصريين"، الذي رفعته الحركة الوطنية المصرية منذ نشأتها، في مواجهة الاستبداد والنفوذ الأجنبي، والذي يمثّل أساس الجامعة الوطنية، فقد رأى الإسلاميون أن هذا الشعار يشكّل النقيض القيمي والموضوعي للجامعة الإسلامية التي يدعون إليها، فقد كان سقوط دولة الخلافة الإسلامية أحد الأسباب الرئيسية في ظهور تنظيمات الإسلام السياسي، وهي رؤية فيها قصورٌ كثير، والاختزال، فمن المعلوم أنّ دوائر الانتماء تتداخل مع بعضها، ولا تتناقض، والعلاقة بين الجامعتين الوطنية والإسلامية تعاونية، وليست صراعية.
الذاكرة التاريخية الوطنية، بما تحمله من انتصارات وانكسارات، مِلكٌ للوطن بكل تياراته الفكرية، وكل تيار جزء من اللوحة التاريخية المصرية، فلا يحقّ لطرفٍ أن يصوغ ذاكرة الوطن من منطلق احتكاره الصواب، أو أن يحذف جزءاً من اللوحة، فجميع التيارات أصابت وأخطأت، وأساءت وأحسنت، وهو ما يحتّم عليها جميعاً الدخول في عملية موسّعة من النقد الذاتي، والمراجعات الفكرية، من أجل استخلاص الدروس من تجارب الماضي، والاعتراف بالأخطاء، من دون دفاع مطلق عنها، أو تمترس خلف صوَر ذهنية عتيقة.
وبإمعان النظر في خلفيات هذه المعارك الجدلية، نجد أنها تعود، في جذورها، إلى الاستقطاب الإسلامي - العلماني الذي خيّم على المجال الفكري والسياسي المصري منذ عقود طويلة، وضرب بجذوره في أعماق العقل الجمعي لتيارات الجماعة الوطنية المصرية، إلى درجة الاختلاف الكامل في رواية الأحداث التاريخية المفصلية.
فمن المفترض أن يكون الخلاف بين التيارات الفكرية بشأن قضايا فرعية، تتعلّق بتصوّر كل تيار لنموذج النهضة الذي يسعى لبنائه، أو في معايير توليفة العناصر الحضارية المستخدمة في تشييد البنية النهضوية لمصر، وما يتصل بالأسسّ الأيديولوجية والفكرية التي يقوم عليها كل تيار، ومدى أولوية القضايا الأولى بالنظر والمعالجة، وهل تكون الأولوية لقضية الحقوق والحريّات، أم لقضية العدالة الاجتماعية، أم للموقف من التغريب والمرجعية الحضارية للمجتمع، أم للوحدة العربية وتعميق التواصل مع محيطنا الإقليمي؟
ولكن، من المفترض أن تكون هناك أرضية وطنية مشتركة، تقف عليها جميع "مدارس الفكر والعمل"، وفق مصطلح المُفكّر الراحل أنور عبد الملك، متمثّلة في حزمة المبادئ التي تشكّل القاسم المشترك لكل الفصائل الفكرية والسياسية، والتي يجتمع عليها ما أسماه المؤرّخ طارق البشري "التيار الأساسي للأمّة".
بيْد أنّ الاستقطاب في الحالة المصرية تجذّر بصورة أفدح، ووصل في عمقه إلى درجة الاختلاف الشديد حول تقييم فصول تاريخ الحركة الوطنية المصرية، والاختلاف الشديد أيضاً بشأن رواية أحداثها، وما ترتب عليه من الموقف حول أشخاصها، إلى درجة أننا وجدنا أنفسنا أمام روايتيْن تاريخيتيْن، تختلفان اختلافاً شديداً في العناوين، والتفاصيل، لكلٍ من التيارين، الإسلامي والعلماني.
معروف أن لكل حقبة تاريخية خصوماً أو معارضين، يحملون نظرة تقييمية مغايرة لنظرة
فقد حرصت الرواية الرسمية "الدولتية" لتاريخنا الحديث على إقصاء الإسلاميين، وإخراجهم خارج إطار الذاكرة التاريخية الوطنية، واعتبرتهم طرفاً دخيلاً، لا أصيلاً، في صورة المشهد التاريخي، أو مجرّد نبت غريب في التربة الوطنية، حيث خلت المناهج الدراسية من أي ذِكر أو إشارة لهم، وكأنّهم شبح أو طيف عابر، وامتدّ هذا إلى أعمال بعض المؤرّخين "المؤدلَجين" من ذوي الأصول الفكرية العلمانية في نسختها المتطرّفة، أمّا الأنكى فهو امتداد تلك الطريقة الإقصائية إلى الأعمال الفنية ذات الطابع التاريخي، فهي إمّا أغفلت ذِكرهم تماماً، أو صوّرتهم صورة تخلو من الموضوعية.
واعتمد الإسلاميون "التقليديون" رواية تاريخية "موازية"، ذهبت إلى أن التاريخ ليس تاريخ الوطن، بقدر ما هو تاريخ الجماعة/ التنظيم، وقامت في أساسها على نموذج تفسيري "مؤامراتي"، لفصول التاريخ الوطني، جنح دوماً إلى تفسير الوقائع التاريخية بعقلية "مؤامراتية"، ذات نزعة قطعية قامت على الثنائية الصراعية (الحق - الباطل)، صورّت الأحداث المفصلية في تاريخنا الحديث مجرّد "مؤامرات"، صاغتها القوى الاستعمارية (الباطل)، بمشاركة أطراف داخلية (بقصد أو من دون قصد) استهدفت الهوية الحضارية، أو قطعت الطريق على تمكين الشريعة (الحق) الذي مثّلته "الجماعة"، في بعض الأحيان.
قد يتفهّم المرء اختلاف السردية التاريخية لبعض الإسلاميين عن الحقبة الناصرية مثلاً، نظراً للصدام الكبير الذي وقع بين نظام يوليو 1952 وجماعة الإخوان المسلمين، في وقت مبكّر من نشأته، والتي نتجت عنها إشكالية كبيرة، وأزمة طويلة ذات طابع صراعي، امتدت عقوداً بين الطرفيْن، ما زالت فصولها جارية، وللطريقة الإقصائية، والتي وصلت أحياناً إلى درجة استئصالية، تعاملت بها دولة يوليو 1952، على اختلاف عهودها، مع الإسلاميين، فقد نظرت لهم دوماً بعيْن الشكّ والريبة، وكان سوء الظنّ حاضراً ومُتبادَلاً من الطرفيْن، وكانت محصّلته أن حرصت دولة يوليو منذ نشأتها على إقصاء الإسلاميين، وإبعادهم تماماً عن مؤسسات الدولة العسكرية، والأمنية، والقضائية، بل والإعلامية، والثقافية.
لكنّ العجيب حقاً هو امتداد تلك السردية "الموازية"، بطول التاريخ الوطني الحديث، بدءاً من عهد محمد علي، ونهاية بثورة 1919 المجيدة، حيث وقفت كثير من أدبيات الإسلاميين موقف الإدانة الكاملة من محمد علي ومشروعه، ورأته مشروعاً تغريبياً بالأساس، وضع بذور التغريب في التربة السياسية والاجتماعية المصرية (!).
كما انتهجت تلك الكتابات النهج نفسه مع ثورة 1919، حيث رفضتها كلية، بموضوعها،
يعود هذا إلى حالة الشكّ والتوجّس العميقة التي حملها الإسلاميون "التقليديون" تجاه شعار "مصر للمصريين"، الذي رفعته الحركة الوطنية المصرية منذ نشأتها، في مواجهة الاستبداد والنفوذ الأجنبي، والذي يمثّل أساس الجامعة الوطنية، فقد رأى الإسلاميون أن هذا الشعار يشكّل النقيض القيمي والموضوعي للجامعة الإسلامية التي يدعون إليها، فقد كان سقوط دولة الخلافة الإسلامية أحد الأسباب الرئيسية في ظهور تنظيمات الإسلام السياسي، وهي رؤية فيها قصورٌ كثير، والاختزال، فمن المعلوم أنّ دوائر الانتماء تتداخل مع بعضها، ولا تتناقض، والعلاقة بين الجامعتين الوطنية والإسلامية تعاونية، وليست صراعية.
الذاكرة التاريخية الوطنية، بما تحمله من انتصارات وانكسارات، مِلكٌ للوطن بكل تياراته الفكرية، وكل تيار جزء من اللوحة التاريخية المصرية، فلا يحقّ لطرفٍ أن يصوغ ذاكرة الوطن من منطلق احتكاره الصواب، أو أن يحذف جزءاً من اللوحة، فجميع التيارات أصابت وأخطأت، وأساءت وأحسنت، وهو ما يحتّم عليها جميعاً الدخول في عملية موسّعة من النقد الذاتي، والمراجعات الفكرية، من أجل استخلاص الدروس من تجارب الماضي، والاعتراف بالأخطاء، من دون دفاع مطلق عنها، أو تمترس خلف صوَر ذهنية عتيقة.