الاستبداد والإرهاب.. الجدليّة المتحوّلة

24 مارس 2015
+ الخط -

كانت تونس تتمرّن جيداً على انتقالها الديمقراطي، وقد دخلت أفقاً آخر، بعد أن كانت قد دربت شعوباً عربية أخرى على تحرير شوارعها الكبرى، والتفكير بعقل طلق. واعتقدنا، لنقص مفرط في المعطيات، وفي الواقع عينه، أن البلاد نجت من الاستبداد، وبالتالي، من صنوه الإرهاب، وجاءت يد الغدر لتذكّرنا بأن نهاية الاستبداد البوليسي، والحكم البيولوجي للزوجة الحلاقة وزوجها العسكري، لا تعني موت الإرهاب، كما في حالة تونس. عندما تلقت تونس في 2002، في مدينة البهاء جربة بالضبط، وكان "زين الهاربين" بن علي قائماً، كان الخبراء في الأمن يفكرون بأن موجة عاتية ستزداد مع تزايد التسلّط والفساد. وتبيّن منذ ضربة تونس العاصمة الثانية (المتحف ـ الثقافة، البرلمان ـ التعددية، السياحة ـ الاقتصاد والانفتاح)، أن الاستبداد لا يترك مكانه للديمقراطية، وأن الأخيرة على الرغم من نجاحها، بمساعدة قابلات عديدات (نهضة وفلول ويسار ونقابات)، لم تشف تونس من إغراء الإرهاب المفترض رحيله عنها، برحيل بن علي ونظامه. وأول تحول الجدلية، في التجربة التونسية، أن الديمقراطية لم تكن التأمين السياسي الجيد للانتقال من ترادف الإرهاب والاستبداد إلى عزلة الإرهابيين مع العهد الجديد، بل
اكتشفنا أفظع من ذلك: الاستبداد يترك مكانه لمرحلة رمادية، تراوح بين عقيدة الإبادة المجتمعية والعقدية وطموح التغيير مع استعادة كل ترسانة الاستبداد، ليس في حالة تونس الوطنية، بل نحن في صلب جدلية غير مسبوقة، بين الإرهاب والاستبداد، من جهة، وبين الأنظمة والغرب، من جهة أخرى.

في ليبيا، التي تفكك فيها الاستبداد الهزلي لزعيم رحل في ظروف تراجيدية، ليس مصادفة أن مناطق النفوذ الأخيرة (سرت تحديداً)، التي كانت فيها فلوله تصارع النزع الأخير، هي نفسها التي تعرف ميلاد ولاية الدولة الإسلامية التي تبايع الخليفة أبو بكر البغدادي! فكأنما سخرية الجدلية الجديدة أن يترك الاستبداد خلفه عباءة القبيلة، لكي ترتديها صيغته الجديدة في الحياة: الاستبداد الإرهابي! لا وقت للانتقال الديمقراطي، لا وقت لميلاد الديمقراطية، لا وقت لكي تجتهد البلاد في مهارة أخرى، غير الرجوع إلى الخلف، وإلى السلف الدموي! في ليبيا الحديثة، ترك الاستبداد عصب القبيلة، لتولد حوله "لا دولة" الاستبداد الإرهابي، ونكون أمام تحول ثانٍ في الجدلية إياها: نهاية الاستبداد تعني ميلاداً جديداً للإرهاب، باسم القبيلة وتفكك الدولة.

ومن غرائب التشكل الجديد لعلاقة الاستبداد والإرهاب أن الغرب يقف على مسافة منهما، تكاد تكون متساوية، وينتظر أن تزداد قوة البطش عند داعش في سورية، مثلاً، لكي يعلن على مرأى من العالم الذي يقيم فيها وحده حكم الخلافة الإمبريالية أن من الممكن أن يكون الاستبداد السوري حلاً مرحلياً لمحاربة داعش الإرهابية. نسي أنه في 2003 كان يقتل الاستبداد البعثي، مجسّداً في صدام حسين، ويبشّر العالمين والمشرقين بمجيء الديمقراطية والسلام في حافلة زواج كاثوليكي واحدة! ووجدنا أنفسنا أن من تجليات مشاهد التشكل الجديد لهذه العلاقة الجدلية المتحولة هو الالتباس الجديد الذي وضعت الولايات المتحدة الأميركية فيه العالم، عندما غيّرت نظارات الرؤية نحو بشار الأسد، فقد سلّم وزير خارجيتها بإمكانية اللقاء مع نظامه الاستبدادي، ضد داعش. وبدا أن الغرب، مجسّداً في أميركا، يعتبر أن الاستبداد ليس ضده الديمقراطية، بل الإفراط في الاستبداد (كما لو اعتبرنا أن العلم ليس ضده الجهل بل الإفراط في العلم!)، وهنا تحول ثالث يجعل المسألة لا تقابلها المسألة المضادة، بل الإفراط فيها، لتنتهي البنية الهيغلية الماركسية التي انبنى عليها تفكير أجيال بكامله، على الرغم من كل مشاربها حول (الأطروحة، الأطروحة المضادة والتركيب)!

للقضاء على إرهاب داعش، لا بد من الإفراط في الاستبداد النظامي، شرط أن تكون الديمقراطية غربية هنا، هي عراب التاريخ الجديد! يمكن أن نضع في الخانات الجديدة كل أشكال التوالد بين الإرهاب والاستبداد والتجريب الديمقراطي، لكن الأساس في التحولات الجديدة أننا نستعصي على التفكير المنطقي في المنطقة العربية، نستعصي على العقل، لأننا تخلينا عنه، وعن الحرية، في دورة رهيبة من الغثيان الحضاري الذي نعيشه، والذي يفسره علم النفس أكثر من أدبيات الحياة السياسية!

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.