محمّد السادس... حين دخل المستقبلُ المغربَ من أقدم باب

23 يوليو 2024

محمد السادس يلقي خطاب توليه العرش في القصر الملكي بالرباط (30/7/1999 فرانس برس)

+ الخط -

مرَّ ربع قرن منذ نُودي بمحمد السادس بن الحسن العلوي ملكاً على المغرب خلفاً لوالده الراحل الحسن الثاني. كان يوم جمعة (23 يوليو/ تمّوز 1999)، وقد حُشِر الناس والوقت عصراً لمأتم وطني لرجل حكم وساد وتقلّب في وهاد الحكم 40 عاماً، ختمها باتفاق تاريخي أوصل أحد شيوخ معارضيه إلى دفّة التدبير الحكومي، ضمن ما سُمِّي في أدبيات التاريخ السياسي المغربي المعاصر بـ"التناوب التوافقي"، أي اتفاق أقلّ من التداول على السلطة، وأكبر من ترتيب إجرائي للمشاركة في التدبير التنفيذي.
رغم السلسلة التي تُنبئ بها الديمومة الزمنية الطويلة للسلالة الحاكمة، والمُؤسّسات المُتفرّعة عن تعاقدات عميقة بين القصر والحركة الوطنية، إبّان المعركة من أجل الاستقلال، التي جعلت الملكية ثابتة في الهُويّة وفي السيادة، فإنّ الوقت لم يكن عادياً بتاتاً، والانتظار كان كبيراً للغاية، كما سيتّضح من بعد. فقد ورث الملك الجديد وقتها مغرباً بالكاد يتعافى من السكتة القلبية التي أعلنها والده، في لحظة شجاعة فريدة في تاريخ الأنظمة العربية، أرادها نقداً ذاتياً من خلاله يقول بأنّ تسييره شؤون البلاد أربعة عقود أوصلها إلى حافَّة السكتة القلبية.

تَحمَّل محمد السادس بشجاعة قرار طيّ صفحة تاريخ مثخن بالجراح الجماعية والفردية، وبناء سردية وطنية واحدة

في ذلك اليوم، وقف وزير الأوقاف السابق، العلوي‮ ‬المدغري،‮ (توفي في 7102) في القصر الملكي، ‬ليقرأ نصّ البيعة‮، ‬الذي‮ ‬سيُدشِّن به الملك محمد السادس عهده،‮ ‬وفي‮ الوقت نفسه، سيسير على هدى‮ ‬تقليد‮ ‬يتجدّد طوال قرون من الزمن الملكي‮ ‬المغربي، هو ‬زمن "إمارة المؤمنين" بالذات‮.‬ ونحن على مسافة ربع قرن‬، ندرك أنّه لا أحدَ كان يُقدّر وقتها ‬حجم التغيير الذي سيحصل، رغم أنّ شيخ المعارضين، الذي صار أول وزير أول في عهد الملك الجديد، عبد الرحمن اليوسفي (2020)، كان قد نبّهنا بالقول: "هذا الملك الشابّ سيُفاجئكم". ولا أحدَ أستشعر بأنّ مغرب محمد السادس سيتطوّر من أقدم وأعتق مُؤسّسة فيه؛ "إمارة المؤمنين"!‬ وقد كنَّا يومها أمام الشاشات ننظر إلى الخطوات الأولى للمغرب الجديد، وهو يدخُل مستقبله من أقدم باب في تاريخه، وتاريخ بناء دولته، فتابعنا أطوار البيعة، باعتبارها البنية الدالّة على "إمارة المؤمنين".‮ ‬ولا أحد كان يُقدّر بأنّ أحد‮ ‬أكثر ميّزات العهد الجديد أنّ‮ ‬المُستقبل‮ ‬بالذات سيدخل من أقدم باب فيه،‮ ‬وهو باب التاريخ.‬
مركزية الحدث، وقتها، ومن بعد، تبدّت من أنّ اللحظة/ البيعة تُشكّل استثناءً في الدائرة العربية الإسلامية، كما صرّح أحمد التوفيق، إذ "تختصّ المملكة المغربية في مجموع العالم الإسلامي بالحفاظ على البيعة للملك الجديد، باعتباره أميراً للمؤمنين قائماً على شؤون الدنيا والدين". يحسُن بنا أنّ نُذكّر بأنّه "لا تاريخ إلّا لما يتغيّر" (أمّا ما لا يتغيّر فلا تاريخ له). وقد جرت البيعة منذ ربع قرن من طريق مُمثّلي‮ ‬الأمّة،‮ ‬وقدمَّها المؤسَّساتيون‬،‮ ‬ولم تقتصر على أهل الحلّ والعقد، كما تآلفت على تسميتهم‮ ‬ثقافتنا التقليدية، ولا شُرِّعَت فقراتها للعوام بلغة الفقهاء.‮ ‬كانت عقداً مكتوباً،‮ ‬سيُصبح جزءاً من الدستور في ‮‬2011، ‬وفي‮ ‬حياضه الروحية‮. ‬ولربّما‮ ‬يمكن اعتبار ما‮ ‬يقوله محمد الطوزي،‮ ‬في‮ ‬حوار كاتب هاته السطور معه‮، ‬في‮ ‬تلمُّس هذا التحوّل‮، ‬فهو‮ ‬يقول: "‬يجب الانتباه إلى‮ ‬أنّنا ربحنا إمارة المؤمنين‮ ‬بقوّة الدستور، وحيث أصبحت‮ ‬مُؤسّساتية‮ ‬ومُدَسْترة‮. ‬وهي‮ ‬توضّح بقوّة طريقة المغرب‮ ‬في‮ ‬تدبير فصل السياسة عن الدين‮ ‬عبر مأسسة إمارة المؤمنين".‬
من هذا الباب، دخل المغرب صحراءه، منذ قرابة 48 سنة، عندما توجّه إلى محكمة العدل الدولية ليطلب رأيها بشأن العلاقة التي تربطه بأقاليم الصحراء، وبناء على رأيها، استرجع ترابه الصحراوي. وما زالت البيعة، بالرغم من انتمائها إلى ترسانة القانون العام الإسلامي، تمثّل عِماد أعمدة قيام الدولة ـ الأمّة بمعناها الحديث. ولعلّ البيعة باعتبارها، عقداً سياسياً واجتماعياً وروحياً ودينياً متكاملاً، فتحت الطريق لمقاربة عميقة حداثية في قضايا تعرف استعصاءاتٍ كثيرة في العالمين، العربي الإسلامي، من قبيل مدوّنة الأُسرَة وقضايا المرأة فيها، وقضايا أخرى ذات طبيعة كونيّة، تخصّ التوفيق بين القانون الكوني ومواثيقه واجتهاداته، ومستلزمات الهُويّة الدينية ونصوصها وموافقاتها، التي تحوّلت إسمنتاً روحيّاً للمؤمنين. ومن هنا، انطلقت قراءات عميقة، تهمّ العقل الجماعي للأمّة، وليس اجتهادات فقهائها الفردية، وهو تحوّلٌ غير يسير في مصفوفة الحقل الديني للأمّة.
ولعلّ من الأشياء المُهمّة للغاية، التي قد ترد في خانة تفسير هاته القوّة الدافعة في البيعة، ما صرّح به وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الروائي المؤرّخ، أحمد التوفيق، لكاتب هاته السطور، بأنّ "المُؤسّسات الحديثة والبرامج السياسية تتلاقى مع مضمون البيعة"، باعتبار ذلك استثناءً مغربياً.
كان التاريخ القريب، المُثخن بالجراح الجماعية والفردية، حاضراً نقطة استعصاء كبيرة في بداية العهد، موروثة عن مرحلة الصراع بين مُكوّنات الحقل الوطني المغربي، التي وصلت إلى المواجهات الدموية أحياناً، وتَحمَّل الملك الجديد بشجاعة قرار طي صفحته، وبناء سردية وطنية واحدة، بالرغم من آلامها كلّها، للتفرّغ لبناء ظروف التنمية والإقلاع. ما زلت أذكر ذلك اليوم البعيد من أيام ديسمبر/ كانون الأول 2005، ولم يمضِ على العهد الجديد إلّا سنوات قليلة. يومها كان لي حوار مع المُعتقَل السياسي السابق المشمول بعفوٍ، إدريس بنزكري (2007)، الذي تولّى المهمّة الصعبة في ترميم الذاكرة بالحقيقة والإنصاف، وفتح الجراح لمداواتها، وعرض البلاد على سرير بحجم خريطتها من أجل عملية تطهير جماعية، واستكشاف السبل لتجاوز الماضي بمآسيه كلّها من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. كان الراحل يرأس هيئة الإنصاف والمصالحة، التي كلّفها الملك الجديد بفتح السراديب المظلمة كلّها في الجسد المغربي المشترك، بقتلاه وشهدائه ومختطفيه ومقابره الجماعية، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. كانت التجربة غير مسبوقة، ومُتقدّمة للغاية، تنظر إلى تجارب مثل جنوب أفريقيا ما بعد نظام الأبارتهايد، وإلى إسبانيا والأرجنتين، ولم يكن أحدٌ يتصوّر أنّ من الممكن الاقتراب من هذه المنطقة المُلتهبة في نظام سياسي مَلَكِي محكوم عليه بالاستمرارية، طبع المرحلة بتجاوزاته، علاوة على تجاوزات قوى المعارضة نفسها، والتجربة التي تفرّعت منها توصيات حاسمة فتحت الطريق أمام توصيات القضاء والأمن. وكانت المُؤسّسات كلها تتعلّق بالقراءة التاريخية لسياقات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لتحديد الإطار القانوني، الذي جرى فيه ما ذكر كلّه، وما هي الأجهزة التي كانت وراء ما وقع، وبعض الملابسات ذات الصلة بالسياق العام. ولعلّ أقوى ما في الحوار أنّ الراحل بنزكري صرّح بأنّ "جلالة الملك، أصدر أمره، بنشر التقرير مباشرة بعد اطلاعه عليه"، مضيفاً: "قال جلالته خاص الشعب يعرف هاذ الشي" (يجب أن يعرف الشعب ما حصل).

ما زالت البيعة، بالرغم من انتمائها إلى ترسانة القانون العام الإسلامي، تمثّل عِماد أعمدة قيام الدولة ـ الأمّة بمعناها الحديث

تبدو البيعة وطي صفحة التاريخ متباعدَين من حيث حقل الدلالة وسجلّ القرار النابع من الدولة، لكنّ العمق هو كيفية تشكّل المغرب مع محمد السادس بسجلَّين متوازيَين، وفي إطار سياق معاصر؛ سجلّ القانون العام من تجربة كونية هي تجربة العدالة الانتقالية، ثمّ العمل من خلال سجلّ الدولة "الإمبراطورية"، المحكومة بسيادتها وآدابها من أجل خدمة الهدف نفسه، أي تحرّر المغربي والمغربية، والارتقاء إلى مواطنة مسؤولة.
وسنختم بما كتبه المُؤرّخ عبد الله العروي في كتابه "دفاتر كوفيد" (المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، 2024) بشأن البيعة وحدها: "لقد تمّ تنصيب الملك الجديد في المملكة المتّحدة بنفس الطريقة تماماً التي تمّ بها تنصيب محمد السادس بعد وفاة الحسن الثاني، وذلك بحضور القادة السياسيين ولا سيّما الدينيين، وكان الحفل حفل بيعة بتوقيع عَقد حضره الشهود وكلّ شيء تمّ تدوينه كتابياً في وثيقة تبدو مثل عقد شراكة، وهناك حتّى اليمين المُؤدّاة من الملك الجديد للدفاع عن عقيدة الإيمان والحفاظ على امتيازات الكنيسة. وهذا لا يمنع، أنّه انطلاقاً من اليوم الموالي سيقوم الوزير الأول بعمله في تدبير البلاد، والبرلمان في مراقبة عمل الحكومة والتشريع بدون إذْن مسبق من الملك".‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.