الاستبداد الاقتصادي: شباب غارقون في الاستهلاك

26 مايو 2016
(تصوير: بيتر مولر)
+ الخط -

عرفت البشرية أشكالاً عديدة من الاستبداد، وكان السياسي هو أكثرها تداولاً وانتشاراً، وهو الحكم الذي لا توجد بينه وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون ناقد الحكم. وتلجأ السلطة باعتبارها صاحبة القدرة على التأثير، الحق الشرعي في التصرف، وإصدار الأوامر في مجتمع معين، للقمع في ممارستها للاستبداد السياسي، الذي يشكّل كل نظرة دونية لأي إنسان، وكل تعصب وعنصرية، وكل تزوير وتضليل، وكل رفض للحوار والتعاون والتنسيق والتوحيد، وكل استهتار بالأخلاق والحريات والقوانين الخادمة للإنسان.

على ذات المنوال، نجد أن الاستبداد الاقتصادي أصبح أكثر استعمالاً مع تزايد قوة الاقتصاد في تقرير المصائر السياسية، وهو مجموعة من الممارسات الاقتصادية المرتبطة بمعيشة المواطنين من خلال احتكار قلة من الناس للمصادر والثروات.

يعتمد الاستبداد الاقتصادي على الريع الاقتصادي الذي يحوّل دور الدولة من دولة إنتاجية إلى دولة تحصيصية، تندثر فيها قيم العمل، الاجتهاد، الابتكار والاستحقاقية، ما يفرز نظاماً فاسداً معتمداً على انتشار ممارسات من قبيل رأسمالية المحاسيب، أو رأسمالية القرابة، تكون الدولة فيها راعية للفساد ووكالة لتوزيع الإكراميات والرخص والهبات والامتيازات على الرعايا وليس حقوقاً للمواطنين؛ فتتحول مؤسسات الدولة إلى شبكات اقتصادية ودوائر سياسية تجمع بين رجال الأعمال والمسؤولين في السلطة التنفيذية وأجهزة الأمن عبر روابط وشائجية من قبيل الانتماء العائلي، القبلي، الإثني والطائفي، معلنة بذلك عن إفراغ المؤسسات الوطنية من كينونتها المبنية على الإسهام في الرقي بأداء الإنتاج الوطني وتحويلها إلى مبانٍ صورية تسبح في الفساد وتقطع أوصال الثقة ومعاني التماسك والسلم الاجتماعي داخل المجتمع.

وفي ذات السياق، يستند الاستبداد الاقتصادي إلى الفساد الذي يتجلى في استعمال النفوذ العام من أجل تحقيق مصالح خاصة ومكاسب شخصية، حيث يتم اعتقال الدولة وتقويض المسار الديمقراطي وهدم الاستقرار السياسي.

وفي ذات السياق، تتعدد أشكال الفساد بين أنشطة فردية وأخرى جماعية، فالرشوة تعني الحصول على أموال أو أية منافع ‏أخرى من أجل تنفيذ عمل أو للامتناع عن تنفيذه بطريقة مخالفة للأصول.

علاوة على ذلك، نجد أشكالاً أخرى من الفساد تدخل في إطار الجريمة المالية، خصوصاً نهب المال العام الذي يتجلى ‏في الحصول على أموال الدولة والتصرف بها من غير وجه حق تحت مسميات مختلفة.

أما الابتزاز فهو الحصول على ‏أموال من طرق معينة في المجتمع مقابل تنفيذ مصالح مرتبطة بوظيفة الشخص المتصف بالفساد. ويعنى بالاختلاس ‏الاستيلاء على المال العام من قبل من أوكل إليه أمر إدارته أو صيانته. بالإضافة إلى الاحتكار الاقتصادي الذي يلغي ‏المنافسة الشريفة بالأسواق فينفرد مشروع واحد أو تكتل بعرض سلعة ليس لها بديل.

وعلى هذا النحو، يشل الفساد خلايا التنمية، فيضعف الإنتاج والرخاء الاقتصادي، ويغيب التوزيع العادل للثروة، وتضيع مقدرات الدولة الطبيعية والحقوقية والمعرفية في غياهب الفقر والجهل والمرض، كما يترتب عن الفساد اندثار تكافؤ الفرص وتدمير ثقافة الاستحقاق والإتقان، بل ينتشر الإحباط واللامبالاة في ‏المجتمع مع تدمير واضح لمنظومة القيم ولمصداقية مؤسسات الدولة.

ولقد شهد العالم العربي خلال العقود الأخيرة تغييرات اقتصادية كبيرة تحت عنوان الإصلاح متمثلة في سياسات التحرر والانفتاح عبر فرض نمط رأسمالي استهلاكي على المواطنين، خصوصاً الشباب منهم. فتم ذلك بالانفتاح التجاري عبر استيراد المنتجات والخدمات الحديثة والتشجيع على استهلاكها بحملات ترويجية مكلفة واستراتيجيات تسويقية تهدف إلى التحكم في عقل الشباب وتوجيههم نحو أنماط استهلاكية غير عقلانية بمحفزات من قبيل الحداثة، الاستفادة والتعلم من الغرب، التغيير نحو الأفضل والانخراط في مسار العولمة. وقد ساعد على ذلك فتح المجال أمام القطاع الخاص للانتشار في الأسواق ومخاطبة العقول بشعارات جديدة تلامس المشاعر وتستعمل الخيال حتى أصبح شرب المشروبات الغازية يقوّي الشخصية ويعطيك النجاح في العمل أو الدراسة، وتغيير زيت الطهو يجعل البيت سعيدا والأسرة أكثر تماسكا، إضافة إلى دور البنوك في التشجيع على القروض ليس فقط لاقتناء بيت أو سيارة، بل صارت ترافق المواطن في كل المناسبات من الدخول المدرسي إلى الأعياد، حتى أصبح الحصول على القروض الاستهلاكية لا يحتاج في الكثير من الدول العربية إلى عمل قار أو دخل مرتفع، فضمان القرض هو دائرة الاستهلاك والتي تجعل المواطن يسدد قرضه قصد الحصول على آخر.

ومما يجب التوقف عنده، أن لهذه الممارسات غايتين رئيسيتين بالنسبة للأنظمة الاستبدادية التي كانت تسيطر على المشهد السياسي العربي، تتجلى الأولى في الريع والفساد الاقتصادي، فقد أدت سياسات الانفتاح العشوائي إلى تضخم الإدارة واستفحال الفساد.

ونجد في هذا الصدد، استخدام السلطة لتشجيع الثراء المدمر للأسس الاقتصادية، وقد تحول الفساد من حالات استثنائية محدودة إلى أسلوب إدارة يهدد بأزمات وانسدادات بنيوية عميقة على الدول العربية، خاصة وأن العديد من القوانين أصبحت فاسدة أو محرضة على الفساد، فيصبح الفساد بالقانون وليس الفساد بمخالفة القانون. علاوة على إشكالية الريع في العالم العربي بسوء توزيع مرده إلى انحراف السياسة الاقتصادية إلى سياسة مصروفات لا تعتني بالرفع من المردودية عبر التصنيع والاستثمار في قطاعات إنتاجية مثمرة، بوضع برامج إنمائية تدعم البنية التحتية المهترئة في الدول العربية، بل تنشغل بتوفير غطاء حاجب للتربح والمضاربات واحتكار الأسواق.

على ذات المنوال، تم إهدار الثروات الوطنية في مغامرات سياسية غير مدروسة كالحروب الإقليمية وإنفاق كبير على التسليح من طرف الأنظمة الاستبدادية، الذي لم يستخدم في غالب الأحيان لصد العدو الخارجي بل لمواجهة شعوبهم.

أما الغاية الثانية فهي سياسية محضة، تتلخص في إلهاء الشباب بالاستهلاك وإثقال كاهله بالديون جعل المواطن يمضي عمره مقيداً ومحصوراً بفواتير لحاجاته الأساسية والكمالية ويتبع لذاته الاستهلاكية دون كلل أو ملل.

وفي الواقع، فإن التشجيع على هذه الأنماط استهدف تفقير الشعوب وتهميشها من أجل حرمانها من الممارسة السياسية المطالبة بالحريات، فأصبحت الطبقات الفقيرة مغيبة الوعي ومكتفية بالتفرج على ما يحدث بل ومشغولة بلقمة عيشها.

إن المشروع الديمقراطي العربي يستدعي الأخذ بعين الاعتبار إقامة أنظمة بمؤسسات سياسية واقتصادية جامعة تعمل على المشاركة الواسعة للمواطنين في صياغة السياسات العامة، التعددية السياسية وسيادة القانون، فصل السلطات واستقلالية القضاء. بالإضافة إلى إرساء عدالة اجتماعية ينتفي فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو كلتيهما، ويغيب فيها الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي، وتنعدم الفروق غير المقبولة اجتماعيًا بين الأفراد والجماعات والأقاليم داخل الدولة الواحدة، ويتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية متساوية وحريات متكافئة.

إنها الحالة التي يعم فيها الشعور بالإنصاف والتكافل والتضامن والمشاركة الاجتماعية، وتتاح فيها لأعضاء المجتمع فرص متكافئة لتنمية قدراتهم وملكاتهم وإطلاق طاقاتهم من مكامنها وحسن توظيفها لصالح الفرد والوطن.


(المغرب)

المساهمون