لم تكن التظاهرات التي خرجت في صنعاء، الأسبوع الماضي، احتجاجاً على رفع أسعار النفط ومشتقاته، الأولى من حيث التظاهر ضد رفع الأسعار، ولا كانت أول مرة توظّف لمصالح سياسية ضيقة لجماعة ما.
خرجت التظاهرات في الرابع من الشهر الجاري، مستغلة الغضب الشعبي، إلا أنه بسبب مشاركة أحزاب "اللقاء المشترك" (المعارضة سابقاً) في الحكومة، وبالتالي في قراراتها، كان الفصيل السياسي الأكبر في هذه التظاهرات هم الحوثيون، الذين اعتبروا الحدث فرصة لاستعراض قوتهم وعددهم وقدرتهم على الحشد.
لم يلتزم الحوثيون باتفاقهم مع المكونات المستقلة التي شاركت في التظاهرات في توحيد الشعارات ضد رفع الدعم وعدم رفع أي شعارات تتعلق بجماعتهم، مما أدى إلى انسحاب هذه المكونات المستقلة من التظاهرات التي غطّتها أعلام الحوثي وشعاراته.
استثمرت جماعة أنصار الله (الحوثيين) هذه التظاهرات، لتعلن نفسها قوة جديدة تطالب بالمشاركة في السلطة، والاعتراف بحضورها مع فصائل سياسية مرتبطة بالرئيس السابق علي عبد الله صالح، وربما الحالي عبد ربه منصور هادي، في محاولة جديدة لإضعاف حزب الإصلاح الذي طالما استغل قدرته على الحشد ضد الرئيس الحالي والسابق، لتحقيق مكاسب حزبية انتهازية.
سيناريو استغلال التظاهرات الشعبية الغاضبة سياسياً لطالما تكرر في اليمن، ولا سيما أن قرار رفع الدعم نهائياً عن المشتقات النفطية التي ارتفعت أسعارها بنسبة ستين في المئة بالنسبة إلى البنزين، وقرابة الضعف بالنسبة إلى الديزل، الذي يستخدم بالمعدات الزراعية، لم يكن الأول من نوعه على مرّ السنوات الماضية.
وجرى رفع الدعم مرات عدة، لكن ليس بشكل نهائي. بمعنى، في كل مرة ينقص حجم الدعم فقط، بحجة كلفة الدعم المرهقة على ميزانية الدولة التي تدفع الفارق، والأهم وقف تهريب الديزل والبنزين من السوق اليمنية بأسعاره البخسة إلى الخارج، ويتورط في شبكة التهريب كبار رجال الدولة بمن فيهم رأس الدولة سابقاً.
أول قرار لرفع الدعم كان عام 1992، صدر في توقيت حرج بعد الوحدة بعامين، يومها كانت البلاد لا تزال تمر بمرحلة انتقالية تشاركية بين طرفي الوحدة، حزب المؤتمر شمالاً والحزب الاشتراكي جنوباً.
كان القرار سبباً في انطلاق تظاهرات واسعة في اليمن، اقتصرت على المحافظات الشمالية، ولا سيما ما كان يُعرف بالمناطق الوسطى، وتحديداً مدينة تعز.
جاءت التظاهرات على خلفية احتقان شعبي في تلك المناطق، وبالأخص مدينة تعز، التي تعرضت لتهميش كبير في عهد الرئيس في ذلك الحين، علي عبد الله صالح قبل الوحدة. ورأى أبناءها في التفاوت والخلاف بين حزب المؤتمر والحزب الاشتراكي فرصة للتنفيس عن غضبهم ومطالبهم، التي عبروا عنها قبل الانتفاضة بفترة وجيزة أثناء مؤتمر أبناء تعز وحضره وجهاء المدينة.
هكذا انطلقت تظاهرات التاسع والعاشر من ديسمبر/كانون الأول من تعز، لتشتعل في بقية المحافظات الشمالية، ولا سيما الحديدة وبدرجة أقل صنعاء. كانت، في البداية، احتجاجاً شعبياً عفوياً - بشكل ما ـ على رفع الأسعار. وكان رد الحكومة قمعياً بامتياز. ودسّت كثيراً من عناصر الأمن السياسي، لنهب وتدمير مخازن الأسرة التجارية الشهيرة في تعز "هائل سعيد"، لأنها وقفت خلف هذه الاحتجاجات التي لم تخل من شعارات مناطقية وطائفية ضد صنعاء.
في المقابل، كان الحزب الاشتراكي يحاول الحصول على مكاسب سياسية من هذه الانتفاضة التي حسّنت من وضعه التفاوضي أثناء مرحلة الإعداد لأول انتخابات برلمانية بعد الوحدة.
بالفعل استثمر الحزب هذه التظاهرات بالمطالبة بمحاصصة جغرافية للانتخابات، قائمة على انقسام البلاد لشطرين كما كانت من قبل الوحدة، إذ كان يخشى الحزب الاشتراكي خسارة نفوذه في المحافظات الجنوبية، بسبب الاستياء الشعبي الواسع ضد فترة حكمه، ولا سيما أن حزبي الإصلاح والمؤتمر كان لهما نفوذ جيد في محافظات كحضرموت وشبوه وأبين.
كذلك خشي حزبا الإصلاح والمؤتمر من شعبية الحزب الاشتراكي في المناطق الوسطى، ولا سيما تعز، لذا كان الاتفاق ألا تكون هناك منافسة حقيقة للحزب الاشتراكي في المحافظات الجنوبية والعكس صحيح، فلا ينافس الحزب الاشتراكي حزبي الإصلاح والمؤتمر في المحافظات الشمالية، مع ترك هامش واسع للمستقلين.
إذاً كانت أول تظاهرات ضد رفع الدعم لها منطلقات مناطقية بنتائج سياسية سلبية على الشعب اليمني، إذ أفرغت العملية الديمقراطية الوليدة من مضمونها، كذلك أدت إلى عملية قمع واسعة لأبناء مدينة تعز وبعض العمليات التخريبية التي استهدفت وجهاء المدينة الاجتماعية والتجارية. لكن جرى تعويضهم مادياً في ما بعد، بينما كانت الخيبة والمرارة حصيلة المواطن العادي.
بعد ذلك بست سنوات، اندلعت التظاهرات الغاضبة ضد قرار رفع الدعم في يونيو/حزيران عام 1998. هذه المرة كانت منطلقة من صنعاء. مثل سابقتها لم تخل من غضب شعبي عفوي واستثمار سياسي كذلك. فلأول مرة تهتف التظاهرات موجهة ضد شخص رئيس الوزراء، عبد الكريم الإرياني، ولهذا دلالته. فالتظاهرات جاءت بعد خروج حزب الإصلاح من الحكم بعد خسارته الانتخابات البرلمانية عام 1997، إذ شاركت كوادره بكثافة في هذه التظاهرات، لكن الأهم أن حليف الحزب العسكري علي محسن الأحمر، ورئيسه الشيخ القبلي عبدالله بن حسين الأحمر، كانوا يناصبون الإرياني العداء. الأخير كان يمثل التيار التكنوقراطي التحديثي في الدولة اليمنية وكانوا يتنافسون على النفوذ لدى رئيس الجمهورية.
لا يمكن نسيان لاعب مهم في هذه التظاهرات، وهم المستفيدون من شبكة التهريب، وهي شبكة واسعة ترتبط برئيس الجمهورية ومراكز القوى القبلية والعسكرية والدينية التي يتزعم بعضها حزب الإصلاح، فهؤلاء من مصلحتهم إسقاط قرار رفع الدعم الذي تتخذه الدولة بضغط من المانحين.
هكذا شارك بالتظاهرات ليس فقط شعب غاضب ينطلق، بعفوية بل عناصر أمنية وعسكرية تلبس لباساً مدنياً وكوادر حزبية للإصلاح. ونتيجتها كانت التراجع عن قرار رفع الدعم نسبياً وليس نهائياً، إذ جرى خفض الأسعار قليلاً ولم تعد كما كانت. والأهم أنها اسقطت التيار التكنوقراطي المخضرم داخل الدولة اليمنية ليحل محله تكنوقراط قليل الخبرة والكفاءة، ليسهل تسييره من التيار التقليدي (القبلي- العسكري).
في ما بعد جاءت تظاهرات ديسمبر/كانون الثاني 2005 ضد الحكومة اليمنية بسبب قرار رفع الدعم. وهذه المرة كان رئيس الوزراء عبد القادر باجمال متردداً إزاء رفع الدعم، لأنه يدرك جيداً محركي الشارع من متنفذين عسكريين وقبليين ورجال دين، لكن بضغط شديد من الدول المانحة تم رفع الدعم ونتج عن هذه التظاهرات خفض الأسعار واستمر الدعم.
أخيراً تأتي تظاهرات عام 2014 التي استثمرتها جماعة الحوثيين. وهذه المرة رفع الدعم نهائياً بعد ضغط هائل من الدول المانحة، والسعودية، وعجزت الدولة كليّاً عن تسديد رواتب الموظفين وتوفير مصادر الطاقة للمواطن. وقرار رفع الدعم أخذ شهوراً طويلة من الصراعات السياسية، وضرب انابيب البترول ومحطات الكهرباء، حتى استطاع رئيس الجمهورية اتخاذه، ولا سيما أن الحكومة تخشى من عواقب هذا القرار، وأحزابها ظلت لعقود طويلة تزايد مزايدة سياسية رخيصة بهذا الخصوص.
تظهر هذه التجارب أن المجتمع اليمني الديناميكي والغاضب من أوضاعه الاقتصادية المتردية تُستغل هباته وانتفاضاته لصالح مكاسب سياسية ضيقة الأفق وانتهازية. ولم تظهر قوة سياسية حتى الآن تعبر تعبيراً حقيقياً عن مطالبه. بينما تتصرف الدولة اليمنية كعصابة. فبعض أطرافها يُخرج تظاهرات ضد أطراف أخرى في السلطة. وتتعذر الحكومة بعجز ميزانيتها التي انهكها الفساد وليس الدعم، بل إنها لا تستشعر الحرج من الاعتراف بعجزها عن وقف التهريب ليتحمل المواطن اليمني كلفة عجزها وفسادها مرة، وكلفة انتهازية الأحزاب والقوى السياسية اليمنية مرة أخرى.