الأردن: وظائف مشبعة في سوق جائع

19 مايو 2016
(في عمّان، تصوير: محمد أبو غوش)
+ الخط -

يرتّب علاء، صاحب الخمسة وعشرين عاماً، محل الخضار الذي يعمل فيه استعداداً لاستقبال الزبائن منذ الصباح الباكر، بينما كان قبل ثلاث سنوات يجهّز أوراقه وأفكاره في صبيحة كل امتحان، قبلَ أن يتخرّج ويمضي نحو سوق العمل المُشبَع عن آخره.

لم تبتسم الحياة لعلاء منذ أن أراد دراسة البرمجة، فتكسّرت أحلامهُ مبكرًا على عتبات الظروف الماديّة الصعبة وارتفاع كلف التّعليم؛ ليختارهُ تخصصُ المحاسبة، بناءً على ما استطاع والده الاقتراض لهذه الغاية.

"أشعر بالنّدم لالتحاقي بالجامعة؛ كل ما فعلته هو مراكمة الديون على أسرتي بلا جدوى". هكذا يصف الشاب شعوره بعدما أجرى أكثر من عشر مقابلاتِ عملٍ، من أصل عشرات الطلبات
التي تقدّم بها، ليتضّح له أن معظمها كان وهميًا، والباقي كان في ظروف استعبادٍ؛ إذ عُرض عليه العمل براتبٍ أقل من الحد الأدنى للأجور ولساعات عمل مضاعفة.

يضيف علاء، في حديثٍ إلى "جيل العربي الجديد": "أشعر بالحسرة حين أنظر إلى وضع أصدقائي الذين توجّهوا منذ البداية إلى المهن الصناعية ولم يكملو تعليمهم، فظروفهم الماديّة الآن أفضل بكثير، بينما لم تأتِ لي شهادتي إلا بالكآبة".

علاء واحدٌ فقط من الحالات الكثيرة التي وجدت نفسها مضطرةً إلى العمل في مجالاتٍ لا تشبهها، بينما تروّج الحكومة لفكرة "التخصصّات المشبعة"، وهي تلك الفروع الأكاديمية التي لم يعد سوق العمل الأردني يستوعب المزيد من خرّيجيها. لكن الخبير الاقتصادي حسام عايش يستبعد أن تكون هذه القضية مشكلةً تعليميةً؛ فهو يرى أن اقتصاد الأردن منذ عقود قائم على المشاريع الريعيّة؛ أي المشاريع التي تقدّم خدمة قصيرة الأمد، وهي مجالات تشكّل النسبة الأكبر في الاقتصاد الأردني، مثل العقارات وقطاع السياحة.

يقول عايش في حديثٍ إلى "جيل العربي الجديد": "هذا النوع من المشاريع لا يستوعب فرص عمل مُستدامة تمكّن الشباب من الحصول على وظيفة في مجالهم، فمعظم استثماراتنا المحلية موسميّة وتتركز في مجالات لا تبحث عن أصحاب تخصص، بقدر ما تحتاج إلى أيدٍ عاملة".

وبينما تتأرجح نسبة النمو في الاقتصاد الأردني بين 2.5% - 3%، فإن معدلات البطالة تصل حاليًا إلى 14.6%. وفي الشهر الفائت (نيسان/ أبريل)، صرّح وزير المالية الأردني عمر ملحس، لوكالات أنباء محلية، بأن الأردن يحتاج إلى معدلات نمو بحدود 5% بحيث يفوق معدل النمو السكاني، ويخلق فرص عمل كافية. وبيّنت نتائج المسوحات التي قامت بها دائرة الإحصاءات العامة؛ أن معدل البطالة كان مرتفعاً بين حملة الشهادات الجامعية؛ إذ بلغ 20.2% مقارنة بالمستويات التعليمية الأخرى.

ويعيد عايش هذا الوضع إلى الفوضى التي يعاني منها السوق الأردني، نتيجة غياب التخطيط الاستراتيجي عند صانع القرار، ويرى أن استمرار التخبّط الحكومي والتملّص من المسؤولية، ينبئ بمستقبل قاتم ومديونية إضافية على الدولة، إضافةً إلى ازدياد في عجز في الموازنة.

ويشترك أحمد (30 عاما) بكثير من التفاصيل مع علاء؛ حيث أنهى دراسته منذ ست سنوات، بدرجة الدبلوم في مجال المحاسبة أيضًا، وأوصدت في وجهه أبواب التوظيف هو الآخر. في البداية، كانت حُجّة أصحاب العمل، كما يقول أحمد، هي عدم تقدّمه للامتحان الشامل، فاضطر إلى العمل في استراحة تابعة لأحد مستشفيات عمّان، قبل أن يجرّب الاغتراب باحثًا عن عمل في دول الخليج، لكنّ أمله خاب أيضًا.

إصرار أحمد وطموحه حمله للحصول على شهادة الشامل، لكنّه اصطدم بعائقٍ جديد يتمثّل بعدم توفّر الخبرة، يقول: "كيف كان بوسعي الحصول على الخبرة إذا كان الجميع يرفض منحي فرصةً أولى؟".

الظروف الصعبة لم تكتف بالحد من أحلام أحمد وتطلعاته، بل طاولت أيضًا أسرته، فكل منهما بات عبئًا على الآخر؛ ما اضطره إلى العمل في مجال تركيب أنظمة الستلايت، قبل أن يقرر التوجه إلى مهنة الدهان، آخذًا بنصيحة أحد الأقارب بعد أن فقد الأمل من كل الحلول الممكنة. يضيف: "سجلت في ديوان الخدمة، لكن أحدًا لم يتعثّر بي منذ سنوات؛ وكان رقمي التسلسلي يتراجع من فترة إلى أخرى، دون أن أعرف السبب أو متى تحين ساعة الحظ".

لم يعد يفكّرُ أحمد في العودة إلى مجال تخصصه، فهو يرى بالمقارنة مع أصدقاء سنحت لهم الفرصة للعمل، أن دخلهُ حاليًا يعادل أضعاف ما يحصلون عليه شهريًا، وهذا لا يعني بالضرورة أن مستواهم المادي جيد، بل يشير إلى ضعف المردود الذي يتلقّاه الموظف في هذا المجال.

ويرى عايش في التشابهات لقصة علاء وأحمد، وبقيّة الخريجين الذين يعانون ذات المشكلة، مخرجًا وحيدًا، يكمن في ضرورة تحول الحكومة نحو الاقتصاد المنتج بدلًا من الريعي، وتسويق المهن تعمل بها العمالة الوافدة بشكل لائق، وأن تخضع هذه المهن لسياسة أجور معقولة، بحيث يتمكّن الشباب من العمل بها، كما يجب أن تخطط الدولة لمشاريع ريادية، وأن تخصّص من المنح التي تحصل عليها ما يساهم في دعم الشباب لإنشاء مشاريعهم الخاصة، والتي تخدمهم وتمكّن أبناء جيلهم من الحصول على فرص عمل. يضيف: "الحكومة ملزمة بإنشاء وزارة للتفكير الريادي؛ تُعنى بتطوير استراتيجيات دعم وتمويل المشاريع الشبابية".

وينظر المختصّون إلى موقف الحكومة بأنه مقتصر على تنظيم طوابير الشّباب السّاعين للحصول على وظيفةٍ من ديوان الخدمة المدنية، يحمل صاحب الدور الأخير فيه رقمًا من أربع أو خمس خانات؛ أملًا بالظفر بوظيفة تؤمن لهم عيشًا كريمًا.

إن لاستمرار الأوضاع الاقتصادية على هذا النحو، طريقتها في تحويل الشباب عاجلًا أم آجلًا إلى قنابلَ موقوتة إذا ما تركوا لمصائرهم؛ بحيث يمنحهم إقصاؤهم شكلًا آخر من الانتماء للجماعة يبعث على القلق، إذا ما نظرنا إلى الأمور بحسابات طبيعة الشباب المقهور ونفسيّته، وليس بدرجة قهره فقط.

المساهمون