اختراع الخوف

29 يوليو 2016

(همام السيد)

+ الخط -
تخبرني جارتي النمساوية السبعينية أنها صارت تعيش خوفاً لم تعشه في سابق حياتها، عندما تتنقل بالمواصلات العامة في فيينا. ويقول لي صديقي النمساوي الثلاثيني إنه يعيش قلقاً لم يعشه سابقاً، وهو يسافر من النمسا العليا، حيث يعيش، بالقطار إلى فيينا. في الصفحات الأولى للجرائد في العالم، غالباً ما تقرأ أخبار العمليات الإرهابية في أوروبا والعالم، فصارت هذه خبراً يومياً مصحوباً بصور تثير الرعب في النفوس. أينما ذهبت، تحسّ بالخوف الذي يعيشه الناس. صار الخوف يحتل المكان الأعلى في تكوين الوعي لدى الشعوب كلها. خطوة وراء خطوة، بدأ النقاش اليومي مع الناس لا يخلو من سرديّة الخوف. تستطيع أن تلمس أن الخوف صار من سمات المجتمعات الغربية في السنوات الأخيرة، كما صار من عناصر الحياة اليومية للناس.
لم تكن المجتمعات الغربية، في العقود الأخيرة، بمنأى عن الخوف. كانوا يخافون الأمراض الحديثة، كالإيدز أو إنفلونزا الطيور والخنازير أو جنون البقر، وكانوا يخافون من التحوّلات الطبيعية وتلوث البيئة. وفي الثمانينات، ذعرت هذه المجتمعات من المراكز النووية القريبة من مناطق السكن، ومن انتشار المخدرات والجرائم المصاحبة لها ..إلخ. لكنهم اليوم يعيشون خوفاً من نوعٍ آخر، يجدون أنفسهم فيه عرضةً للموت أو الذبح أو التفجير والتشظي، بلا أي قدرةٍ ذاتيةٍ على الحماية. فقدان الأمن هو ما يبعث الرعب والخوف في النفوس، فقد صار الفرد لا يأمن التجول بالحرية والشعور بالطمأنينة، كما في السابق.
لطالما أهمل الباحثون الاجتماعيون في الغرب شعور الخوف، فقد تُرك هذا الشعور للدراسات الفلسفية واللاهوتية وعلم النفس، ذلك أن تحليل هذا الشعور اعتبر دائماً فردياً. تم التعامل معه بوصفه موضوعاً خاصاً بالأفراد، وقليلاً ما تم الانتباه إلى صناعته، مثل أي ثقافةٍ للميديا والسياسة وعالم الإنترنت، بتأثيراتها القوية في تشكله ورعايته، لكي يصبح ظاهرةً اجتماعية واضحة.
كثافة العمليات الإرهابية الدموية التي قامت بها مجموعات إسلامية في المجتمعات الغربية جعلت ظاهرة الخوف تنتشر من بلادنا لتعمّ العالم أجمع. من نتائج الثورات العربية أن الشعوب العربية التي رزحت تحت أنظمة الخوف عقوداً طويلة، استطاعت، في بداية انتفاضاتها في تونس ومصر وسورية واليمن، أن تنتزع من حياتها خوفاً مدمراً، تعمّق في كياناتها لأزمنة ليس أدقّ من وصفها بأزمنة الخوف. لكن، سرعان ما برز، في وسط هذه التحولات العظمى، خوفٌ جديد متوحش، وغير ممركز بنظامٍ معين، ما زاد من سطوته على النفوس، وهو الخوف من الممارسات المتوحشة للجماعات الإسلامية الأصولية، مصحوبة بعنف وحشي، ليس له مثيل من قوى الأنظمة التي تصارع من أجل ديمومتها. ويرى علماء الاجتماع، في محاولاتهم تفسير ظاهرة الخوف، إن الخوف لا ينشأ معزولاً في الذات البشرية عن القوى الاجتماعية والسياسية التي تصنعه صناعة متقنة، وعن القوى صاحبة المصلحة في احتكاره وتشغيله لمصلحتها. معنى الخوف وعيش تجربته مرتبطان دائماً بالعناصر الثقافية والتاريخية التي تتحكم بكينونته، وتشكله بالتمظهر الذي نراه. انتقل الخوف من بلادنا اليوم معنا، وبالإيحاء الواقعي، إلى العالم، وأصبح العالم، بكل جغرافيته، موطناً للخوف، ولن ينجو أحدٌ من تأثيراته الدموية في النفوس والثقافات. صارت البارانويا من سمات العصر، وانعدمت الثقة بين الشعوب والأعراق والثقافات.
من يتابع وسائل الميديا ووسائط التواصل الاجتماعي يلمس، بوضوح، الخوف لدى المجتمعات. ولسوف تجد المجتمعات البشرية دائماً الجهات مختلفة الخلفيات التي تستثمر هذا الخوف لمصلحتها الخاصة.
في خطاب تنصيبه رئيساً عام 1933، قال الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت: الشيء الوحيد الذي يجب أن نخافه هو الخوف نفسه. كان روزفلت يحلم بمستقبلٍ يقلّص الناس فيه خوفهم، ليتطلعوا إلى مستقبل آمن. اليوم السياسيون في العالم يضخّون في وعي الناس وقلوبهم نزعة الخوف من كل شيء، حتى من الخوف نفسه.
دلالات
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.