فرنسا تحتفل بإنزال "النورماندي" وسط آمال باستعادة حيوية العلاقات مع واشنطن
وإذا كان المقام، كما يظهر من الاحتفالات والاستعراضات ومن شهادات قدامى المحاربين ومن الرسائل التي وصلت من الجبهة، هو مقام تخليد ذكرى عزيزة على الشعوب الأوروبية، وخاصة الشعب الفرنسي، إلا أن حضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب اليوم، أفسد شيئاً من الاحتفال.
ولا يقتصر الأمر على فرنسا، التي تعوّدت منذ مجيء ترامب على تلقي رئيسها إيمانويل ماكرون وقياداتها وحكومتها تغريدات مزعجة، وأحياناً مهينة، بل مرت زيارة الرئيس الأميركي لبريطانيا، التي استمرت ثلاثة أيام، في ظروف صعبة، تخللتها تظاهرات ضد قدوم هذا الضيف "المزعج الديماغوجي والمعادي للديمقراطية والعنصري"، الذي "ينشر الخراب لدى مروره"، كما كتب الصحافي أنطوان بيرو، في موقع ميديا بارت الإخباري، كما وصفه عمدة لندن صادق خان بـ"الفاشي".
وربما كان القادة الأوروبيون يتمنون حضور رئيس أميركي آخر غير ترامب، لكن للديمقراطية إكراهاتها ومفاجآتها، وهو ما يوجب عليهم أن يأخذوه في الاعتبار.
ومن هنا، فإن هذه الذكرى هي فرصة أخرى للقاء الحلفاء، ومحاولة منح العلاقات دفعة جديدة، وتجنب الخلافات ما أمكن.
ولا شك في أن المصارحة ضرورية، وخاصة أن قضايا الخلاف كثيرة، لا تتعلق فقط بالملف النووي الإيراني مع محاولات واشنطن، التي لا تكلّ، وضعَ حدّ لمبيعات طهران النفطية، ولا بخروج ترامب من "معاهدة باريس حول المناخ"، وإنما أيضاً بمواقف الرئيس الأميركي ضد الاتحاد الأوروبي، في ما يخصّ العلاقات التجارية، والتهديد بفرض العقوبات والضرائب على السلع الأوروبية، وهو ما يقترب من الحرب التجارية، وأيضاً بالابتزاز في ما يخص حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إذ يكرر ترامب في مناسبات متعددة طلبه من الحلفاء تسديد الفاتورة المالية الأميركية الكبيرة، وهو ما يعني زيادة الحلفاء في ميزانياتهم العسكرية، وبلغة أوضح شراء السلاح الأميركي لا غير. ولعل تركيا، الحليف القوي في الناتو، تعرف ما يقصده الرئيس ترامب.
ولم يعد الخلاف الفرنسي الأميركي سراً، إذ بعد أن فشلت سياسة العناق والضرب على الكتف، كشف الرئيس الفرنسي، أثناء حملة الانتخابات الأوروبية، عن تدخل مقربين من القيادة الأميركية الحالية في الانتخابات لتخريبها، عبر دعم القوميين و"أعداء الاتحاد الأوروبي"، وكشف بالاسم عن ستيف بانون، مستشار ترامب السابق. كما انتقد الرئيس الفرنسي الحرب التجارية التي تشنّها الولايات المتحدة الأميركية ضد الصين، معتبراً أنها تهدد التجارة العالمية.
وسيكون لقاء الرئيسين الفرنسي والأميركي، وجهاً لوجه، أثناء مأدبة الغداء، اليوم الخميس، فرصة للمصارحة يأمل منها ماكرون التقليل ما أمكن من القضايا الخلافية، وأيضاً تقليل الفجوات فيها.
وعلى الرغم من أن ترامب شخصية لا يمكن تصور ردود فعلها، ومن ثم، لا يمكن لأحد توقع طعم التغريدات التي يطلقها، إلا أن ماكرون سيحاول أن يستفيد من روحية المناسبة، التي كانت سبباً في تحالف العالم الغربي الديمقراطي، وهو تحالف مستمر لحد الآن، مع حلف الناتو. ويعرف الرئيس ترامب والأميركيون أن الفرنسيين مَدينون في استقلالهم للدعم الغربي، وخاصة الأميركي.
وأمام المقبرة الأميركية في "كولفيل- سور-مير"، وفي خطاب لا يخلو من نفحات شاعرية مؤثرة، عن لحظات ما قبل الإنزال ثم خلال العملية وما بعدها، مع كل النتائج التي انتهت إليها العمليات، أكد ماكرون أن فرنسا لا تنسى هذا الإسهام الأميركي الكبير من أجل أن "تستعيد فرنسا حريتها"، وأضاف باسم فرنسا والأمّة الفرنسية: "ننحني إجلالاً لهذه التضحيات، التي قام بها المحاربون".
وفي هذا الصدد، أعلن الرئيس ماكرون توشيح خمسة من "هؤلاء الأميركيين الشجعان"، أرفع الميداليات الفرنسية: وسام جوقة الشرف برتبة فارس.
واعترف الرئيس الفرنسي، مخاطباً قدامى المحاربين الأميركيين: "أنّ فرنسا تَدين لكم بأكثر من الكلمات والتضحيات"، وعبّر الرئيس ماكرون عن الأمل في "أن نكون في مستوى وَعْد النورماندي".
وأكد أن فرنسا "لا تنسى آلاف المظليين، ولا مليوني جندي انخرطوا في تحرير المدن"، وباسم فرنسا، وباسم الأمّة، أكد ماكرون "الانحناء إجلالاً لشجاعتهم، إجلالاً لتضحيات 37 ألف جندي قضوا في هذه الليلة. أقف إجلالاً للمحاربين القدامى، وأقول شكراً لأمّتهم".
ثم عبّر الرئيس الفرنسي عن أمله ألا يتوقف أبداً "التحالف بين الشعوب الحرة"، وتحدّث عما سماه "وعد نورماندي"، آمِلاً في "استعادة معناها، والتقاط أسباب هذا الالتزام". ودعا ماكرون الرئيسَ الأميركي إلى "تجديد لا يتوقف لهذه المعاهدة التي توحّد الولايات المتحدة وفرنسا بالحرية"، مؤكداً "للعزيز دونالد ترامب، أني جاهزٌ وشعب فرنسا جاهزٌ أيضاً، لإدامة الصداقة بين أمّتَينا، اللتين قدمتا الكثير لتاريخ البشر".
ويأتي هذا الخطاب الودود للرئيس الفرنسي، قبل لقاء على انفراد سيجمع الرئيسين في الواحدة والنصف بعد الظهر. وسيحاول الزعيمان إعادة بعض الدفء لعلاقات توترت بعض الشيء، في كثير من القضايا، مع مجيء ترامب.
وكمثال على هذه البرودة في العلاقات بين فرنسا وأميركا، قال رئيس الحكومة اليميني الفرنسي الأسبق جان بيير رافاران، المقرب من الرئيس الفرنسي، صباح اليوم: "إن من كانوا حلفاءَنا (في الماضي)، أصبحوا، اليومَ، وفي كثير من الحالات منافسين، بل خصوماً" وأضاف، في نوع المرارة: "لو كنا في حاجة إليهم، اليوم، فأنا لستُ متأكداً من أن أميركا ستكون في الموعد".
وفي كلمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، امتدح الرئيس تضحيات المحاربين القدامى لبلاده ووطنيّتهم، قائلاً لهم: "أنتم مصدر اعتزاز لأمتنا"، قبل أن يضيف: "إن ديْنَكم أبديٌّ".
وهو ما لا ينفيه الفرنسيون، ولا قادتهم، وهو تحديداً ما أكده الرئيس ماكرون في خطابه الذي أثار إعجاب قدامى الجنود الأميركيين ودغدغ عواطفهم.
ولن تنقص أيضاً، في لقاء الزعيمين الفرنسي والأميركي، مواضيع التوافق، التي يجب تعميقها، والمتعلقة بالتعاون العسكري الوثيق جداً في جبهات متعددة من العالم، في سورية والعراق ودول الساحل والصحراء، كان آخرها فقدان فرنسا اثنين من أفراد قوات النخبة التي استطاعت، بفضل دعم استخباراتي ولوجستي أميركي، تحرير رهينة أميركية لا يعرف عنها أي شيء، وتسلَّمَها الأميركيون في سرّية تامة.
كما أن فرنسا، لا تحتاج للإلحاح الأميركي على أعضاء حلف الناتو بشأن زيادة ميزانيتها العسكرية، إذ إن فرنسا، وباعتراف ماكرون قبل أسبوعين، عززت ميزانيتها العسكرية بشكل كبير.
وبخصوص الجيش الأوروبي، كتعبير عن السياسة الدفاعية الأوروبية الموحدة، العزيزة على ماكرون، فإن الرئيس الفرنسي طَمْأن المترددين والمعارضين، من أوروبيين وأميركيين، بأن هذا الجيش سيشتغل في تنسيق شديد مع حلف الناتو، الذي تتحكم فيه القيادة الأميركية.