إعلام داعشي من خارج التنظيم

28 مايو 2015
+ الخط -
لم يعد الغموض الذي اعترى تنظيم داعش في بداية ظهوره وارداً اليوم، فقد بددته عوامل عديدة كالتقارير والدراسات، الملاحظة والوعي، والتحليل السياسي لهذه الظاهرة، فمعظمنا بات على معرفة تامة أو شبه تامة بماهيّة هذا التنظيم المتطرف، والذي تبين بأنه ليس سوى تجسيد لسياسات استخباراتية تابعة لدول عدة، بالإضافة إلى تسهيلات مخابراتية محليّة للبلدان التي يظهر فيها هذا التنظيم. ونقول عن هذا التنظيم بأنه تنظيم متطرف، ليس تبعاً لقشوره الإسلامية المتستر وراءها، والتي أمست، أيضاً، مسرحية تاريخية هزليّة نتيجة تكرارها، وإنما لجوهره، والذي يمثل تطرف سياسات ومصالح "رحم" الدول الذي انتجته ورعته واستثمرت ولا تزال تستثمر وجوده ونشاطه. فماهيّة هذا التنظيم ليست إذاً إسلاماً سياسياً، بل إسلاماً مخابراتيّاً بامتياز. وليست مصادفةً، أيضاً، بروز هذا التنظيم بُعيد بزوغ ثورات الربيع العربي، فمهمته الأولى إذاً محاولة تشويه ثورات الحرية والكرامة عن طريق محاولة صبغها بالتطرف الديني من جهة، وتشكيل مداخل دولية لتحقيق مصالح كل دولة من هذه الدول على حده من جهة أخرى، عن طريق ضرب القوى المسلحة الثائرة على طُغم الاستبداد المافيوية، والثانية هي محاولة من محاولات إخماد ثورات الشعوب العربية المطالبة بالحرية. 

إن هذا العصر هو عصر الإعلام بلا منازع، وليس خافياً على أحد تلك القاعدة الإعلامية التقليدية والتي تقول: الإعلام، وفي أحسن حالاته هو أداة تنفيذ مشروع وليس صاحبَ مشروع. والتجسيد العياني لهذه القاعدة، هو الدور الذي يقوم به الإعلام (العربي والعالمي، المدّعي انحيازه إلى الثورات أو المعادي لها جهراً) في تغطيته لمآلات الثورات والعنف المفتعل داخلها، والذي يتماشى بل ويتناغم مع الأسلوب أو النهج التأسيسي لداعش. فهذا الإعلام على تباينه لم يختلف من حيث الجوهر والمضمون في خدمة تلك المصالح والسياسات المخابراتية الدولية، ولعل مشهد التعاطي الإعلامي على هذه الشاكلة يبدو جلياً وواضحاً أكثر من غيره فيما يخص الحالة السورية أو الملف السوري، وذلك من خلال سياسة إعلامية تتبنى ما يلي:

1. فرز وتقزيم الثورة إلى معادلة أحادية الأبعاد، قوى متطرفة ومعتدلة.

2. تسليط الضوء على تطرف داعش لإيهام الرأي العام بأن ما بقي من الثورة السورية هو
قطع الرؤوس والإعدام حرقاً وإنشاء إمارات إسلامية ورايات سوداء.

3. إعداد مشهد تظهر فيه جرائم الأسد ومليشياته الطائفية كنظيراتها من الجرائم التي ترتكبها القوى المتطرفة الأخرى والمعادية بنيوياً للثورة.

4. التعاطي مع داعش وتطرفه على أنه سبب وليس نتيجة، لخلق مبررات تحول دون الالتزام الأخلاقي للتدخل في سبيل إسقاط الأسد، مقابل الادّعاء بمحاربة التطرف عن طريق ملاحقة وضرب داعش نفسه.

5. إيجاد مبررات غير مباشرة لغض الطرف عن تلقي الأسد الدعم العسكري من عدة وعتاد، لزعمه محاربة ما يسميه بالإرهاب، وهو الذي لم يرمِ طلقة واحدة تجاه هذا التنظيم. مقابل رميه مئات من البراميل المتفجرة، يومياً، والتي تستهدف المدنيين ومئات البراميل من غاز الكلور والتي راح ضحيتها العديد من المدنيين وخصوصاً الأطفال والنساء.

في عالم الإعلام، تبقى المسألة الأساسية والجوهرية، دائماً وأبداً، هي مسألة الرأي العام، بتشكيله أو بلورته أو تأثيراً فيه، فالرأي العام هو قبلة أيّة وسيلة إعلامية. وعلى اعتبار أن الرأي العام هو تكوين فكرة أو حكم على موضوع أو شخص ما، أو مجموعة من القيم والمعتقدات القابلة للنقاش، وبذلك تكون صحيحة أو خاطئة تخصّ أعضاء في جماعة أو أمة تشترك في الرأي رغم تباينهم الطبقي أو الثقافي أو الاجتماعي، وهو، أيضاً، التعبير العلني والصريح الذي يعكس وجهة نظر أغلبية الجماعة تجاه قضية معينة في وقت معين.

وفي هذا الإطار، دأب الإعلام "الداعشي" على تسليط الضوء نحو الجانب العنفي المتطرف للثورات العربية، وأحياناً كثيرةً حاول الاكتفاء بذلك الجانب، وبعيداً عن النوايا الحسنة في التحليل، فإننا لا نجد واقعياً سوى تفسير واحد لهذا الإجراء، ألا وهو استكمال العبث في هذه الثورات وتشويهها بغية وأدها من جهة، واستنزاف قوتها وقوّتها عن طريق إطالة عمر الأنظمة المُثار عليها من جهة ثانية، وذلك كله بتوظيف الإعلام لهذه المهمة من سياسات واستخبارات الدول المصنّعة والداعمة لداعش.

إن لم نقرّ بأن ثورات الربيع العربي ومنها الثورة السورية العظيمة بأنها لم تتعرض لانحرافات أو ارهاصات، فسنكون بذلك قد قفزنا فوق الواقع والحقيقة، ولكن أن نتمعّن في هذا الجزء فقط من الواقع (والذي أفرزه تكالب المجتمع الدولي وإمعان الإجرام من نظام الأسد) دون الإشارة والتمعن في المساحات الأخرى للثورة، فهو انتقاص مجحف لها، وهو بمثابة كلمة حق يُراد بها باطل، لحرف بوصلة التدخل لإسقاط النظام ولإيهام الرأي العام بأولوية إسقاط داعش، رغم أن الواقع والعقل يقولان: إن إيقاف العنف يبدأ بإسقاط الأسد.

إن تزييف الحقائق ومواربة الواقع وتشويش الرؤى، ما هي إلا جهود يبذلها الإعلام ومن يقف وراءه، لتلويث الرأي العام بغية استئصال استمالته وانحيازه إلى الربيع العربي، فمع الإعلام الداعشي لم يعد يرى العالم المظاهرات السلمية بنداءاتها المدنية والحضارية، وتطلعاتها المشروعة في الحرية والكرامة، كما تجاهل جلّ النشاطات والفعّاليات المدنية، من مجالس وإدارات وتجمعات تنطوي جميعها تحت ما يعرف بالنشاط السلمي المدني، فقد عمل هذا الإعلام على تنحيتها تدريجياً، وذلك عن طريق المبالغة و"النفخ" في الحالات المتطرفة بدايةً، ثم التصعيد نحو تأصيل صور العنف لدى المُشاهد العربي، قبل غيره، لكي يصبح لفظ الثورة مرتبطاً بصورة ذهنية عند المُشاهد مفادها العنف والعنف المضاد فقط، لتقديم صورة الربيع العربي بشكل مجوف، هزيل وعنفي، بعيداً كل البعد عن حقيقته المطالبة بأبسط الحقوق وأسماها، الحرية والكرامة.

(سورية)