لا تمتلك قرارات رئيس الحكومة العراقي حيدر العبادي، والتي أُقرت من البرلمان العراقي وباتت نافذة المفعول، عصا سحرية لتوفير وتلبية طلبات الشارع العراقي في شكل عاجل، بعدما انتفض هذا الشارع أخيراً في مدن الجنوب والوسط، وتجاوز ما وُصفت بالخطوط الحمر التي حرص على عدم التعرض لها طيلة سنوات ما بعد الاحتلال الأميركي، كالزعامات الدينية والقيادات الإسلامية.
كما أن تلك القرارات التي وُصفت بالإصلاحية لاقت رفضاً واعتراضاً من مكوّنات متضررة منها، كرئيس الحكومة السابقة نوري المالكي، إضافة إلى اعتراض المكوّن الكردي، وهو ما ظهر عبر كلام لرئيس الجمهورية فؤاد معصوم، والذي قال إنّ العبادي لم يستشره لإطلاق حزمة الإصلاحات، على الرغم من إعلان ترحيبه بها، مؤكّداً أنّه "لولا ضغط الشارع ودعم المرجعية لما تمكّن العبادي من إجراء تلك الإصلاحات".
وأدى تراكم مشاكل العراقيين إلى صعوبة تفكيكها وإيجاد حلول لها على الأقل خلال فترة قليلة مقبلة، مع معاناة المواطن العراقي من ارتفاع نسبة البطالة، والمستويات العالية في معدل الفقر، واستشراء الفساد وقلة الخدمات، فضلاً عن مشاكل الطائفية والتناحر المجتمعي التي نخرت الجسد العراقي، وظهور نظام طبقي مقلق لم يشهد العراق له مثيلاً من قبل.
ومثّلت محافظة البصرة أقصى جنوب العراق، أولى شرارات الثورة الشعبية ضد الحكومة والفساد، وذلك خلال تظاهرة عفوية شارك فيها عشرات الشباب في 31 يوليو/تموز الماضي أمام مبنى الحكومة المحلية للبصرة، احتجاجاً على انقطاع الكهرباء بالتزامن مع ارتفاع قياسي بمعدلات درجات الحرارة بلغ 58 درجة، وارتفاع نسبة الرطوبة إلى 79 في المائة.
وأطلقت قوات الأمن العراقية خلال تلك التظاهرة النار على المتظاهرين، ما أدى إلى مقتل شاب وإصابة اثنين آخرين، وهو ما أشعل المحافظة في اليوم الثاني لتمتدّ التظاهرات إلى محافظات مجاورة ثم بغداد التي دعا فيها ناشطون وصحافيون من خلال صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للتظاهر ضد الفساد وقلة الخدمات.
إلا أن التظاهرات تطوّرت ليرتفع فيها سقف المطالب وتزداد شعبية، لتتخطى الشعارات المطالبة بالإصلاح إلى أخرى تنادي باقتلاع الأحزاب الدينية الحاكمة ومحاسبة المسؤولين، قبل أن يتم تنظيم اعتصام مفتوح في ساحة التحرير وسط بغداد على مقربة من المنطقة الخضراء.
وأنتج تغلغل المليشيات في تلك التظاهرات وزعماء سياسيين كالمالكي في محاولة لاستغلالها، نتيجة عكسية تماماً لهم، إذ يرى مراقبون أنها أحد أسباب استعجال العبادي لخنق خصومه من خلال التظاهرات قبل استغلالها ضده، بينما يرى فريق آخر أن قرارات رئيس الحكومة جاءت بعد استشعار السلطة الدينية خطر التظاهرات المنادية بحكم علماني أو وطني بعيداً عن حكم الأحزاب الدينية. أما أبرز المشاكل التي يواجهها العراقيون فتتمثّل في:
الوضع الأمني
يُعتبر الملف الأمني واحداً من أخطر الملفات التي أخفقت حكومات ما بعد الاحتلال الأميركي بمعالجته، فعلى الرغم من انسحاب قوات التحالف الدولي التي شاركت بغزو العراق في ديسمبر/كانون الأول 2008 أعقبها الانسحاب الأميركي أواخر عام 2010 إلا أن بلاد الرافدين لم تتوقف فيها مطحنة القتل.
ويعزو خبراء أمن عراقيون ذلك إلى جملة عوامل، أهمها تدخّل إيران السلبي في العراق وتمويلها للمليشيات المتطرفة، ثم سياسة التهميش والإقصاء وحملات التطهير الطائفية التي انتهجتها حكومة إبراهيم الجعفري في عام 2005 وحكومتا المالكي (من 2006 حتى 2013) ضد العراقيين السنّة، والتي ولّدت لدى الكثير منهم دوافع انتقام وتطرّف.
وفشلت الحكومات العراقية في بناء جيش قوي أسوة بالجيش السابق إبان عهد الرئيس الراحل صدام حسين، إذ غلب على المؤسسة العسكرية وكذلك الأمنية الداخلية الطابع الطائفي وعدم التخصص للقيادات والفساد المالي والإداري. وكانت أكبر فضائح المؤسسة الأمنية والعسكرية في العراق هي تورّطها بعمليات تعذيب طائفية واكتشاف عشرات الآلاف من المنتسبين الوهميين الذين يتقاضون مرتبات، ما عرف حينها بـ"الجنود الفضائيين". إضافة إلى ملف أجهزة الكشف عن المتفجرات مع شركة بريطانية، وملف التسليح ضمن صفقات سلاح روسية وصينية وإيرانية، وعوامل أخرى تتعلق بطريقة بناء الجيش العراقي من قبل الأميركيين، وتلاشي عقيدة الوطن لدى الجنود مقابل الولاء للدين أو الطائفة، وفقاً لما يراه عضو جمعية المحاربين العراقيين العميد الركن أحمد زين الدين.
ويقول زين الدين، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "الملف الأمني هو الكابوس العراقي المزمن منذ 13 عاماً، والذي راح ضحيته نحو مليون قتيل وجريح من العراقيين، وذلك كله بسبب عدم امتلاكنا للجيش الوطني وهذا أمر تتحمّل مسؤوليته الحكومة".
ويشدد على أن "الإصلاح يجب أن يبدأ بهيكلة الجيش وإعادة بنائه بشكل مهني، واعتماد المدارس العسكرية من خلال إعادة إحيائها كمدرسة لتخريج عناصر الجيش كما كانت، والكف عن معسكرات التدريب التي باتت مخجلة للجيش العراقي بين باقي جيوش المنطقة"، معتبراً أن "هذا الأمر لن يتحقق حالياً في ظل الحرب التي هي بحاجة إلى أي جهد بشري، كما أن المليشيات تسيطر على مفاصل مهمة من الجيش وتعيق أي عملية إصلاح فيه"، مؤكداً أن "الوقت الحالي يصلح لحلول أو إصلاحات بسيطة لن ترتقي بالجيش والشرطة إلى صفة الوطنية على أفضل الأحوال، وهو ما يعني استمرار النزيف العراقي حتى لو تم طي صفحة داعش، بسبب المشاكل الأخرى، إذ إن هذا النزيف موجود أصلاً قبل احتلال داعش المدن العراقية بسنوات طويلة".
اقرأ أيضاً: رسائل العبادي: التغيير على مراحل ونفوذ المرجعية الدينية الأقوى
الفقر والبطالة
سجلت المدن العراقية مطلع العام الحالي أرقاماً مخيفة في نسبة البطالة، وصلت إلى 35 في المائة في عموم مدن العراق، وارتفعت نسبة الفقر بالعراق إلى 44 في المائة. أسباب عدة أدت إلى ارتفاع نسبة الفقر، أبرزها إخفاق الحكومات المتعاقبة على العراق في إدارة الملف الاقتصادي والتجاري للبلاد، والفشل في مجال الاستثمار وجذب رؤوس الأموال بعد مغادرتها العراق عقب الاحتلال، واستشراء المحسوبية داخل مؤسسات الدولة العراقية، والفشل في تحسين قيمة الدينار العراقي الذي ما زال يراوح مكانه بواقع 1200 دينار لكل دولار واحد، وإخفاق مشاريع قطاع السكن وإلغاء دور شبكات الرعاية الاجتماعية.
ويقول عضو غرفة تجارة بغداد محمد عوني، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "حالة الفقر والبطالة المستشرية في المجتمع العراقي الذي يشهد نمواً سكانياً مع وصول عدد سكانه إلى نحو 38 مليون نسمة، لا يمكن لإصلاحات العبادي معالجتها بالسرعة التي يرغب فيها الشارع"، لافتاً إلى أن "الموضوع يتطلب مئات المليارات من الدولارات، خصوصاً مع وجود نحو 12 مليون فقير وعاطل من العمل، وهناك حاجة لفتح مشاريع لتشغيلهم وصرف إعانات شهرية لهم وللمتقاعدين والمرضى وكبار السن والأرامل والأيتام". ويعتبر أن هذا الأمر "مشكوك في إمكانية معالجته بسبب الأزمة المالية الحادة والعجز في الموازنة الذي بلغ 27 مليار دولار بفعل انخفاض أسعار النفط"، متوقّعاً عدم انخفاض معدلات البطالة والفقر.
وإذ يرى عوني "أن كل الإصلاحات مهمة ومحترمة"، إلا أنه يُعرب عن أسفه لأنها "جاءت متأخرة، لذا ستتأخر آثارها ونتائجها عن العراقيين".
اقرأ أيضاً: العراق: تمرير البرلمان حزمة الإصلاحات يعيد معركة تطبيقها للعبادي
الفساد والخدمات
بحسب تقرير صدر عن لجنة برلمانية مختصة، فإن مجموع واردات العراق من بيع النفط فقط بالأسواق العالمية بلغ نحو 800 مليار دولار ما بين 2006 ومطلع 2014 وكلها دخلت البلاد عبر البنك المركزي العراقي تم إنفاقها خلال السنوات الثماني الماضية من دون أن تتوفر للمواطن العراقي الخدمات الأساسية اليومية كالكهرباء والماء والاتصالات وشبكات الصرف الصحي والطرق والجسور والمدارس والمستشفيات.
وما زال هناك أكثر من 6 آلاف مدرسة طينية في العراق، كذلك لا تزال نحو 60 في المائة من طرق العراق غير معبّدة وتفتقر 70 في المائة من المدن إلى خدمات الصرف الصحي، بينما يحتاج إلى ثلاثة ملايين وحدة سكنية لإنهاء أزمة السكن. ولا يتوفر للعراقيين سوى ست ساعات تغذية بالتيار الكهربائي في اليوم الواحد وهو ما يعني أقل من الساعات المجهزة له قبل احتلال البلاد في مارس/ آذار 2003، إضافة إلى نقص كبير في الخدمات الأخرى كما يكشف النائب محمد الدليمي.
ويقول الدليمي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه تم تخصيص 27 مليار دولار لملف الكهرباء وحده، ولا أحد يعرف أين صُرفت وكيف ذهبت، معتبراً أن "الفساد والسرقة مخيفة، والمالكي كان يعاقب من يفتح فمه بالاعتقال ثم تركيب تهمة له كالإرهاب والبعث والتآمر على العراق وغيرها من التهم أو يرسل له عنصراً صغيراً في مليشيا تابعة له ليسكته إلى الأبد".
ويشير إلى أنه "تم إنفاق 167 مليار دولار على تأهيل وتجهيز الجيش والشرطة العراقيين، ليتبين أن الأسلحة التي تم شراؤها كانت إيرانية وروسية وصينية وكلها الآن لا تصلح للقتال".
ويرى الدليمي أنه "تمكن مصادرة أموال الفاسدين المكدّسة في مصارف أوروبا وبيروت ودبي وطهران واستردادها للشعب حتى نثبت أن الإصلاحات حقيقية"، معتبراً أن "الإصلاحات في هذا المجال يمكن أن تكون سريعة، فقطع رأس الفساد سيوفر للدولة المال وسيعيد بعضاً من الانتعاش للسوق العراقية والمواطن قبل كل شيء"، لكنه يلفت إلى أن "لا أمل بإصلاح خدمات الطاقة والماء والطرق والجسور وباقي الخدمات، فالحرب في ذروتها وستبتلع أي مبلغ يتوفر من تلك الإصلاحات لذا لا حل سريعاً لهذه المعضلة".
ووفقاً لتقرير صادر عن لجنة النزاهة البرلمانية مطلع العام الحالي تم الكشف عنه حديثاً، فإن الموازنات التي صُرفت خلال فترة ثماني سنوات (من 2006 إلى 2013) بلغت 727 مليار دولار أميركي، وهو مبلغ كافٍ لإعادة بناء العراق بشكل كامل، إذ كانت موازنة عام 2006 بقيمة 18 مليار دولار ووصلت في عام 2013 إلى 130 مليار دولار، تُضاف إليها موازنات الطوارئ الحكومية وفائض بيع النفط عبر ميناء جيهان التركي، والذي لا تُعرف كميته بسبب عدم نصب منظومة قياس أو عداد داخل الأراضي العراقية، وتكتفي الحكومة بالعداد الموجود في الأراضي التركية فقط.
تضاف مشاكل أخرى يواجهها العراقيون، أهمها انتشار الأميّة وعودة الأمراض القديمة التي شهدها العراق في ستينيات القرن الماضي كشلل الأطفال والكبد الفيروسي وغيرها، واتساع رقعة سرطان الثدي بين السيدات وسرطان الدم بين الرجال وفقاً لتقارير طبية عراقية نشرتها وسائل إعلام محلية عراقية، عدا عن انتشار تجارة المخدرات والعصابات المنظمة والتهريب غير الشرعي، وارتفاع عدد النساء الأرامل الذي بلغ بحسب عضو البرلمان العراقي لقاء وردي نحو مليوني أرملة وأكثر من خمسة ملايين يتيم ومليون مطلقة. وتضيف وردي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "تلك المشاكل ورثها العبادي كلها، والإصلاح الحالي من المؤمل أن يتبعه إصلاح آخر حتى نتمكن من إيقاف الانهيار".
وحول هذا الموضوع، يقول أحد قادة تظاهرات بغداد خالد الطائي، في حديث لـ"العربي الجديد"، "إننا نعلم ألا شيء سيتغير سريعاً، لكن يمكن القول إننا نفتخر بهذه الثورة التي أجبرت الجميع على هذه القرارات، لذلك سنستمر في التظاهر ولن نتوقف، وقد نُخصّص في كل أسبوع مؤسسة نتظاهر لأجلها حتى نحقق مطالبنا"، مشدداً على أنه "لا يمكن إلا أن نحقق نتائج ولو بعد مدة، وهذا أفضل من التفرج على بلدنا وهو يحتضر تحت ضربات السياسيين والقادة اللصوص الذين لم نعرفهم من قبل إلا بعد الاحتلال بأيام".
ويضيف: "هدفنا ليس تغيير النظام أو قلب الحكم بل إجبار الجميع على أن يتقوا الله بنا ما داموا قد دخلوا باسم الله والدين للحكم وتسلطوا علينا"، معلناً أن "المتظاهرين قرروا الاستمرار في التظاهر إلى حين التطبيق الفعلي للإصلاحات".
اقرأ أيضاً: إصلاحات العبادي تصطدم بتدهور الأمن وتهديدات الخصوم