إسرائيل بلسانٍ عربي فصيح

02 سبتمبر 2014

صفحة "إسرائيل بتتكلم عربي" على فيسبوك

+ الخط -


نشرت صفحة (إسرائيل تتكلم العربية)، وهي صفحة على "فيسبوك" تروج إسرائيل لدى المتابعين العرب والمشتركين في موقع التواصل الاجتماعي، نشرت ما يشبه الاستبيان عن عدد المسلمين الذي قتلوا في الشرق الأوسط، وحددتهم بـ11 مليونا، 90% منهم قتلوا على يد مسلمين، بينما لم يقتل في الصراع العربي الإسرائيلي سوى 0.3% في 66 عاماً، "فلماذا، إذن، تُعلّق على الشماعة الإسرائيلية جذور جميع مشكلات الشرق الأوسط؟" تتابع الصفحة! وعلى الرغم من الحقيقة الصادمة في هذا الاستبيان الترويجي، ومن أنه منذ ما بعد مرحلة الخلافة الراشدية، ومنذ أن تحول الإسلام إلى مرحلة تأسيس الدولة، وبالتالي، تكريس السلطة والحكم، ومن ثم تأسيس الطوائف والمذاهب، والتي ليست في جوهرها سوى صراع على السلطة، فإن حروب المسلمين ضد المسلمين لم تنته، وراح ضحيتها ما لا يمكن إحصاؤهم من المسلمين.

مع ذلك، ثمة في الاستبيان ما يثير الريبة، مثلما يثيرها توقيت إنشاء صفحة كهذه، لم يمض على إنشائها عامان، وتحظى الآن بنحو 500 ألف معجب عربي أو يهودي يتقن العربية. وفي تعريف الصفحة، أن وزارة الخارجية الإسرائيلية هي من فتحتها للتعريف بنشاطات الوزارة، ولتلقي الأسئلة والحوار. وليس خافياً استغلال الظرف العربي الكارثي لإنشاء صفحة كهذه،  يمكنها أن تروج "إنسانية" إسرائيل، مقارنة بما ترتكبه أنظمة عربية، أو مقارنة بما تقترفه تنظيمات الإسلام السياسي التكفيرية المسلحة، فمع ما يحدث في سورية وليبيا والعراق تحديداً، وغيرها من بلاد العرب بالعموم، من قتل يومي ومجازر متنقلة متبادلة وحروب أهلية ذات بعد مذهبي وطائفي وقبلي، وتصوير الإسلام (بكل مذاهبه) عبر الحركات والتنظيمات التي تتكنى به، كما لو كان ديناً دموياً، بنيت عقيدته على الذبح والقتل والتمثيل بالجثث وتشويهها، ستبدو إسرائيل معه كأنها الممثل الوحيد للسلام والتعايش والتسامح، لا تقتل يهودياً، ولا تعتقل أبناء بلدها، وفي إجرامها ضد الفلسطينيين، تعرف كيف تظهر بمظهر الضحية، وكيف تسخر ماكينتها الإعلامية في العالم، للتعاطف معها، وتصوير الفلسطينيين والعرب، بصفتهم معتدين ومجرمين. ومع صفحة كهذه، سيمكنها التأثير في الوعي العربي الجمعي، المفجوع بحاضره وماضيه، وفاقد الأمل بمستقبله، خصوصا لدى الفئة العمرية الشابة، أو التي بدأ وعيها يتشكل في السنوات الأربع الماضية، كما يمكنها ترويج فكرة التطبيع، وإنهاء حالة العداء، والدخول في مرحلة جديدة من العلاقات العربية الإسرائيلية المشتركة، وربما التمدد أكثر في عمق الأراضي العربية، خصوصا مع تفكيك الدول المجاورة لها، وتدمير بنيتها المجتمعية الحاضنة لفكر المقاومة، وإنهاك جيوشها بحروب داخلية، والقضاء على ترسانتها العسكرية.

وبالعودة إلى الاستبيان السابق، على الرغم من حقيقته الصادمة، إلا أنه استبيان تبسيطي ومراوغ ومخادع، إذ كل ما حدث في بلاد العرب والإقليم خلال الـ66 عاماً الماضية، أي منذ إنشاء دولة اسرائيل، لا يمكن عزله عن وجودها. فمن تصعيدٍ للفكر القومي العروبي، والذي استطاع الشغل على زيادة منسوب الوهم، وتضخيم الشخصية العربية، وبالتالي، تسييد الزعماء العرب الذين لعبوا على هذا الوتر، وتحويلهم إلى سلطات مستبدة، تستند في تثبيت استبدادها أولاً على وضع العدو الإسرائيلي في الواجهة. وبسبب هذه الواجهة، ألغيت مشاريع التنمية الاجتماعية، ومنعت مراكز الأبحاث، وقمعت كل الأصوات المعترضة، وغيّب العمل المدني السياسي والثقافي، وأفرغت المجتمعات من كل ما يمكنه مساعدتها على النهوض، وتم فرض سيطرة المؤسسة العسكرية والأمنية التي حكمت هذه البلدان بقوة القمع، وتم تضخيم أسطورة الإسلام السياسي بقمعه من جهة، وفتح الهوامش له للتغلغل في قلب المجتمعات، فساعد الأنظمة على تغييب الشعوب، وإبقائها في حالة التعلق بالغيب، والحد من إعمال العقل وتجريم التفكير والتحليل، وإدراجه تحت بند المؤامرة الإسرائيلية/ اليهودية على العرب والمسلمين، ثم لاحقاً القضاء المبرم على كل التيارات والأحزاب الوطنية التقدمية، والتي ناضلت حقاً ضد إسرائيل، واستبدالها بحركات مسلحة، ذات طابع مذهبي وطائفي، مشابه لإسرائيل، وتوهم أنصارها الكثيرون بانتصارات خلبية، هي، في حقيقتها، تضحية بالأبرياء في طريق دورة رأس المال العالمي الذي تعد تجارة السلاح من مصادره الأساسية.

ترافق هذا كله مع تفشي الفساد وانتشاره، وخلخلته البنى الأخلاقية للأفراد والمجتمعات، وإلغاء الهويات الوطنية الجامعة لمصلحة هويات صغيرة وضيقة، تبقي هذه الشعوب في حالة تناحر دائمة، ويصبح معها مجرد التفكير بالتغيير مسبباً لكل هذا الخراب الذي نعيشه الآن. في المقابل، كانت دولة إسرائيل تتقدم علمياً وتكنولوجياً، وتبني منشآتها العسكرية والنووية، وتعد جيشها، وتعلي من شأن مواطنيها، وتروج أمام الرأي العام العالمي "سلميتها" المحاطة بجيران وحوش، يريدون تدميرها، لشعورهم بالنقص نحو حضارتها وتقدمها!

هل كانت الأنظمة العربية ستنجح في كل ما فعلته بشعوبها من قمع ونهب لثروات البلاد، والتصرف بها، كما لو كانت مزارع يتوارثها الأبناء عن الآباء، لولا وجود كيان هو خلاصة مافيا المصالح الدولية، ذات الأذرع الأخطبوطية، الممتدة إلى كل مكان، كالكيان الإسرائيلي؟ لعل في عنوان صفحة "فيسبوك" موضوع المقال (إسرائيل تتكلم بالعربية)، والمستعار من واحدة من أشهر الأغنيات العربية القومية (الأرض بتتكلم عربي) ما يجيب عن هذا السؤال.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.