إدغار آلان بو... عازف القيثارة الحزين

19 نوفمبر 2015
تمثال للشاعر إدغار آلان بو في بوسطن (Getty)
+ الخط -

في سنة 1849، وُجد الشاعر والمؤلف والناقد الأميركي، إدغار آلان بو، جثة هامدة فوق مقعد في الشارع، وهو لم يصل بعد إلى عامه الأربعين، هذا المبدع العبقري الذي اجتمعت عليه الأحزان من كل جانب، رسم طوال حياته القصيرة عالماً مسيّجاً بالجنون والقتامة والغموض، وكأنه يعيش في قارة معزولة موحشة، مفزعة برؤيته السوداوية ومشاعره الملتبسة.

هذا الاضطراب في حياته وشخصيته، انعكس بشكل واضح في نتاجه الأدبي، ولعل قصته "القط الأسود" وقصيدته الخالدة "أنابيل لي"، دليل على تلك البوهيمية التي طبعت مجمل إبداعه. لا شك أن هذه الأعمال الأدبية ترسم تلك الصورة السوداء لمبدع عبقري، لم يمهله الموت سوى أربعين سنة كانت كافية لنقش اسمه من ذهب في خانة المبدعين الكونيين، فإدغار آلان بو، عُرف بسوداويته، ويُجمع المؤرخون أن طباعه الحادة كانت سبباً في عدم استقراره، حتى أنه لم يستطع أحد تحمل مزاجه العصبي الحاد، ولا استطاعت العقوبات الجسدية القاسية التي كان معمولاً بها في المدارس الدينية أن تحد من موجة تمرده وعصيانه.

كذلك كان الشأن في مدرسة "إرفين" ذات الطبيعة المحافظة الصارمة في تربية الناشئة وقد يكون للطقوس الدينية أثر واضح في شحن عالمه القصصي بالضبابية والسوداوية، ثم تردده على أكثر من مدرسة وبيت ووظيفة. ولعل حكايته مع العمة ماري حين زجته في مدرسة بلندن نتيجة سوء تصرفاته وغرابة أطواره وصلابة طبائعه، دليل أيضاً على بوهيميته وتمرده. وعند التحاقه بالخدمة العسكرية، استمر في كتابة الأشعار والقصص على نفس المنوال، أي الإغراق في التشاؤم والنكوصية، وكأن هذا الأسلوب هو الوحيد الذي يوافق ميولاته ورغباته.

وفي سنة 1832 نشر خمس قصائد، ثم بعدها عمل محرراً للعديد من المجلات الأدبية، فكان ناقداً صارماً، حاداً كالسيف، نفاذاً إلى عمق الأعمال الأدبية، يواجهها بالنقد والحجج والبراهين، وما إن تحسنت ظروفه المادية، تزوج من فتاة صغيرة تدعى فيرجينيا، لكن سرعان ما دبّ في جسدها النحيل داء السل، فماتت بعد خمس سنوات، ويُحكى أنه لم يجد مالاً لدفنها، فتطوع جيرانه للقيام بمراسم الجنازة.

تأثر آلان بو بشدة بهذا الحدث المفجع، فأدمن معاقرة الخمر، حتى مات نتيجة التسمم الكحولي، وفق ما أعلنت عنه الصحف. حتى وإن ظلت أسباب موته غامضة، هذه الحياة المأساوية ساهمت في تكوين شخصية هشة، ونفسية مهزوزة، انعكست على عالمه القصصي والشعري، حيث نلمس هذا الجنوح نحو الصور السوداء وخلفيات البوح الجنائزي، ما جعل مسألة اقتحام مجاهيلها وفك طلاسمها الملغزة غاية في الصعوبة، فهو مثال للشاعر النزق، السوداوي، الشريد والمتشرد والمشرد، مدر المبادئ والأعراف والأخلاق، هاتك ستر القصيدة، ومهدم أسوار النثر الحصينة، السابح ضد التيار، المنفلت من قيود النواميس والقوانين، عازف القيثارة الحزين، الكئيب والمتألم، المجنون والعاقل في الآن نفسه.

(المغرب)

اقرأ أيضاً: عزلة المثقف

دلالات
المساهمون