إدانة الحرق لا تكفي

07 فبراير 2015
+ الخط -
لم يكن إحراق الطيار الأردني، معاذ الكساسبة فعلاً وحشياً مستنكراً فقط، بل كان فرصة لفتح العيون على خبايا في التراث الإسلامي، يلجأ إليها مقاتلو "داعش" لمفاجأتنا بمستوى إجرامي أعلى من سابقه، بعدما خلنا أن الذبح هو أقصى ما يمكن أن يصل إليه هذا العقل المريض. فعل الإحراق السينمائي لم يكن العمل المتقن الوحيد في العمل، بل أرفق ببيان وشواهد دالة، من أمهات الكتب الإسلامية، على أن هذا الأمر ليس جديداً، ولجأ إليه الأولون في مرحلة الانتشار الإسلامي.
كان الأمر ربما صادماً لكثيرين، عندما خرج الإعلامي المصري، إبراهيم عيسى، على الهواء مباشرة، ليقول إن الخليفة الأول أبا بكر الصديق أحرق أحد الأشخاص حياً، وهو ما استند إليه "داعش" لتنفيذ عملية إعدام الرهينة الأردني. كلام عيسى، الذي توسع بيان التنظيم في شرحه لاحقاً، مورداً ما تيسر من فتاوى منتشرة في كتب إسلامية عديدة، لم يلق الرد الكافي والشافي من علماء الدين الإسلامي. وأعلنت دار الإفتاء المصرية أن سند فعلة الحرق لأبي بكر "باطلة وساقطة"، واكتفى الداعية الحبيب الجفري بالإشارة إلى أن الرواة الذين نقلوا هذه الواقعة غير ثقات.
لكن، لا دار الإفتاء المصرية ولا الجفري، نفيا وجود الرواية فعلياً في كتب إسلامية كثيرة متوفرة على رفوف المكتبات وفي قوارع الطريق، وربما تدرّس في معاهد دينية، خصوصاً أن مثل هذه الروايات واردة في كتابي الطبري وابن النديم. ولا شك أن مثل هذه الكتب ساهمت في تكوين أجيال من الشباب المستعدة لأن تتلقى ما قام به "داعش" برحابة صدر، وهو فعلياً ما تبدى في تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي. ففي ذهن هؤلاء أنه طالما أن للأمر سنداً في التراث الإسلامي، فلا ضرر في ذلك، وبدأت تورد الأمثلة بأن الحرق المباشر مماثل تماماً للحرق عبر قصف الطائرات، في محاولةٍ لإيجاد تبرير لما ارتكبه التنظيم الإرهابي. هؤلاء ليسوا من "داعش"، أو على الأقل ليس رسمياً، لكنهم داعشيو الهوى، يعيشون بيننا، ولم تسنح الفرصة لهم بعد للعيش في كنف "الدولة الإسلامية" المزعومة.
"الداعشيون" الرسميون وغير الرسميين، شئنا أم أبينا، هم نتاج أفكار وتعاليم موجودة، ولا تزال متداولة، وبالتأكيد، لا يكفي معها نفي الجفري ودار الإفتاء، ولا أي أحد غيرهما من العلماء، صلة ما يقوم به هذا التنظيم بالإسلام، واعتباره لا يمثل صحيح الدين الحنيف. ربما حان الوقت لعملية إصلاح ديني حقيقي في الإسلام، تزيل ما علق به من شوائب وروايات. ولتكن عملية إحراق الطيار الأردني، وما تلاها من سجال فقهي وشعبي، مناسبة لفتح هذا الملف الذي بات ضرورة ملحّة في ظل ما نشهده من تنامٍ للفكر المتطرف في المجتمعات العربية. فكر له مسوغات سياسية واجتماعية، لكنه، بالتأكيد، يجد في نصوص دينية متوفرة ضالته.
لا يكفي نفي روايات داعش ومسوغاته الدينية وفتاواه للوقوف على هذا الخطر الزاحف على الأمة العربية، قبل غيرها، خصوصاً أنه كلام عابر، ومتصل بحادثة بعينها، أثارت الاستنكار لبشاعتها، فيما حوادث أخرى كثيرة، بينها الذبح والرجم والجلد، تمر مرور الكرام، ولا تلقى من العلماء أي إدانة، على اعتبار أنها أصبحت من الأمور المعتاد على مشاهدتها، وربما يتحول الأمر كذلك مع الحرق.
مواجهة تحتاج إلى خطوات أبعد وأعقد، لا نقول أن تكون مشابهة لعملية الإصلاح الديني الجذري الذي شهدته أوروبا في القرن السادس عشر، وكان المساهم الأول في نهضتها، وهو أمر صعب جداً في العالم الإسلامي. لكن، لا بد من عملية إزالة شوائب كثيرة عالقة في التراث، أثرت ولا تزال تؤثر بتوجهات الأجيال، وإلا فإن شعار "باقية وتتمدد"، والذي يعلنه داعش لن يكون مجرد شعار، بل واقعاً على الأرض بعد فوات الأوان.
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".