إبراهيم جوابرة وحيرة الطفولة

11 ديسمبر 2015

لوحة للفنان إبراهيم جوابرة

+ الخط -
كلما هممت بالكتابة عن أعمال إبراهيم جوابرة (30 عاماً) المعروضة في عمّان، أخيراً، وأنا أسير دهشة تملكتني منذ البدء. الرؤية (أو الشوف؟)، على ما يذهب الناقد والمفكر جون بيرجر، سابقة الكلمات، فالطفل يشوف قبل أن يتكلم ويعبر باللغة. عدتُ أمام أعمال إبراهيم جوابرة إلى طفولتي، فشفتُ، ولم تكن لديّ الكلمات التي استحضرتها اللوحات أمامي. ربما ليس أمام اللوحات، بل أمام الفنان الذي يبدو كأنه قرّر ألا يكبر، وحافظ على طفولته، فظلت عوالمه غارقةً بتلك الألوان الزاهية والفرحة، في الوقت الذي ذهب العالم من حوله إلى قسوة الحياة وقسوة الهوية وتفتت البراءة. هذا إذا قرأنا اللوحات قراءة أولى بريئةً كما توحي، ونظرنا إلى الوجوه نصف المغمضة العيون، المبتسمة دائماً، باستثناء شخصية واحدة، تبدو غاضبة وحزينة ومخيبة، وذلك الحنان الفائض للشخوص نحو الطبيعة والقطط، بخطوطها المتوازية، كأن هناك ما يشي باستحالة اللقاء في مطرحٍ ما من فضاءات اللوحات المتوازية وخطوط الخلفيات الأفقية والعمودية. وفي تلك الأرواح التي تتنفس في ألوانها الصفراء والحمراء والبنفسجية والخضراء والقرمزية، وسط سكينةٍ بالغةٍ، كأن الشخوص جميعاً، كباراً وصغاراً وقططاً، خضعوا لقوة طاغية، ألزمتهم الصمت والكف عن الحركة.
توقف إبراهيم جوابرة في طفولته، فتوقفت في فنه، وطلب منها صارماً أن تلتزم السكينة في المكان البريء من مخيلته التي ازدحمت بمشاهد العنف والحصار وتقطيع الزمن وانتهاك الهوية وتعبيراتها ورموزها والجموح لوقف التهتك بالمصير. ولد إبراهيم قبل عامين من الانتفاضة الأولى. وفي الثانية، كان في الخامسة عشرة. واليوم، يغلق عامه الثلاثين وسط الدماء وإعدام الأطفال في شوارع بلاده. ابن مخيم العروب وبيت لحم وعمّان. ليس في أعماله، على المستوى التقني والأسلوب الفني واللغة، ولا بالمعاني التي تخلقها اللوحة عنده، ولا في الألوان وبالرؤوس المفلطحة بتحبب، ولا بأنصاف الظلال على الوجوه، ولا بالدعة البرانية للشخوص وهم يشبهون الدمى، ليس هناك أي علاقة بالتاريخ، لا تاريخ البلاد المتجدد على القهر، ولا تاريخ الفن التشكيلي الفلسطيني، حيث نشأ إبراهيم جوابرة، فالحركة التشكيلية الفلسطينية منذ النكبة تعبر، بشكل واضح، عن اللحظة التي عاشها الفلسطينيون تحت الاحتلال، وفي الشتات. فشاهدنا، في البدايات، الخيمة والتشرد والوجوه الحزينة، ثم صرنا نشاهد البندقية والكوفية والفدائي والمدن المستعادة والقرى المهدمة، ثم أشجار الصبار والزيتون وقبة الصخرة وصابون نابلس والأشرطة الشائكة والرصاص والجدار الفاصل، إلى أن وصلنا اليوم إلى السكين رمزاً فنيّاً جديداً.
قليلون الفنانون الفلسطينيون الذين تحرّروا من تلك الرموز، أو بالأحرى من استطاعوا أن يخلقوا مناخاً آخر في العمل الفني، يجهد مخيلة المشاهد، ويهزّ كيانه، ويدفعه إلى مرافقتهم في متاعب البحث عمّا يشغل أرواحهم المعذبة. حتى عندما جرت محاولات لدى بعضهم لإنزال الرموز من عليائها الشعبي، كان الشغل على تلك الرموز مباشراً، وظلّ أسيراً لها، مع اختلاف التقنيات.
عندما ننظر إلى لوحة فنية، فنحن لا ننظر إلى شيء واحد فقط، نحن ننظر إلى العلاقة بين اللوحة ونفوسنا والطريقة التي نرى فيها الأشياء تتأثر بما نعرفه في كل مستويات المعرفة والحياة، وبما نعتقد به من أفكار وأيديولوجيا وخرافات أحياناً، وما نحمله من فرضياتٍ، كما يقول بيرجر حول الفن، مثل الجمال والحقيقة والعبقرية والحضارة والشكل والذوق والخسارات والهوية والصراع. إذا كان الفن التشكيلي الفلسطيني ساهم في صياغة الهوية عبر أكثر من سبعين عاماً مضت، فإن أعمال إبراهيم جوابرة تنبئ بنوع جديد من الفن، مختلفاً ومميزاً.
لا يمنح فن إبراهيم جوابرة هوية لطفولته الساكنة، بل يجرّدها من هويتها، لتكون طفولة مجردة، طفولة إنسانية تحلم بالفرح، ولكن، لا يمكن للطفولة أن تكون فرحانة تحت الاحتلال، فتحقق لها اللوحات الحلم المنكسر المستحيل، وهذا من أجمل وأبدع ما شفت.

8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.