إبادة التوتسي بعد 20 عاماً: محاكمة لا تشمل فرنسا

05 فبراير 2014
+ الخط -
بدأ القضاء الفرنسي محاكمة أحد مرتكبي المجازر بحق قبيلة "التوتسي" في رواندا التي حصلت قبل 20 عاماً. محاكمة تأتي متأخرة جداً، وقد يكون جرى السماح بتحريكها بدافع المصالح الاستراتيجية لفرنسا في القرن الأفريقي، أكثر منه بدافع تحقيق العدالة، وخصوصاً أن الدولة الاستعمارية السابقة ليست بريئة مما ارتُكب من مجازر في حينه، وتحوم حول جنودها العديد من الشبهات بارتكاب جرائم القتل والاغتصاب.

فقبل نحو عشرين عاماً، وتحديداً في شهر أبريل/ نيسان، شنّ متطرفون من العرق الأكبر في البلاد، "الهوتو"، وينتمون الى "الحركة الجمهورية الوطنية من أجل التنمية الديموقراطية"، هجوماً على أقلية التوتسي في رواندا، عقب اغتيال الرئيس الهوتوي ﺟﻮﻓﻴﻨﺎل هاباريمانا، وارتكبوا بحقهم واحدة من أبشع المجازر في القرن الماضي، أخذت في دربها حتى المعتدلين من "الهوتو". قُتل آنذاك أكثر من 800 ألف شخص، وذُبح أطفال التوتسي واغتُصبت نساؤهم وأُحرقت منازلهم. إبادة جماعية دامت لأكثر من ثلاثة أشهر، وخلّفت آثاراً مادية ونفسية لا تزال البلاد تحاول الخروج منها حتى اليوم.

آنذاك، تمكنت "الجبهة الوطنية الرواندية"، التي يقودها أفراد من "التوتسي"، من طرد المتطرفين والحكومة المركزية الداعمة للمجازر الى خارج البلاد. غير أن اتهامات كثيرة طالت الجبهة الوطنية، مفادها أنها عملت على الانتقام من الهوتو، وارتكبت بدورها مجازر ضد الإنسانية. بعد ذلك بأشهر، اتخذ مجلس الأمن الدولي قراراً وفق الفصل السابع، قضى بإنشاء محكمة دولية لغرض واحد، هو محاكمة الأشخاص المسؤولين عن أعمال الإبادة العرقية وغير ذلك من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني في إقليم رواندا، ومحاكمة المواطنين الروانديين المسؤولين عن ارتكاب أعمال إبادة الأجناس وغيرها من الانتهاكات المماثلة في أراضي الدول المجاورة، وذلك في الفترة الممتدة ما بين يناير/ كانون الثاني 1994، وديسمبر/ كانون الأول 1994".

وهكذا، تأسست أول محكمة جنائية دولية لملاحقة مرتكبي الإبادة الجماعية بحق "التوتسي"، وصدر أول حكم من هذا النوع في التاريخ ضد جان بول أكايس، رئيس بلدية تابا، في أكتوبر/ تشرين الأول 1998. وكانت مدينة تابا قد شهدت اغتصاب الآلاف من أبناء التوتسي وتعذيبهم وقتلهم. ووجّه الادعاء الى أكايس 12 تهمة من تهم الإبادة الجماعية، أدين بـ9 منها.

بعد ذلك بأعوام، وتحديداً في عام 1998، تحركت القضية في فرنسا، حيث بدأت لجنة مستقلة من رواندا تضم مؤرخين وخبراء قانونيين جلسات استماع علنية داخل مجلس النواب الفرنسي، لبحث الدور الفرنسي في المجازر التي ارتُكبت. وخلص خبراء اللجنة إلى أن فرنسا كانت تسعى للحفاظ على نفوذها في القرن الأفريقي، فسهّلت عملية الإبادة.

واعترف القيادي السابق في الجبهة الوطنية، جاك بيهو زاغار، الذي شغل أيضاً منصب سفير بلاده لدى باريس، بأن فرنسا "أرسلت جنوداً وأسلحةً، ودرّبت القتلة، وأقامت الحواجز لتسهيل مهمتهم بإبادة التوتسي". انتهت اللجنة الى إصدار تقرير مفصّل أحصت فيه شهادات العديد من الناجين والصحافيين، وخلصت الى أن فرنسا أدّت دوراً فعالاً في الإبادة الجماعية في رواندا، وأن جنودها ارتكبوا جرائم الاغتصاب بحق ناجيات من التوتسي، وأنهم شاركوا مباشرة في عمليات القتل. وأوصت بضرورة محاكمة رئيس الوزراء السابق دومينيك دوفيلبان، والرئيس السابق فرانسوا ميتران.

السلطات الفرنسية، بطبيعة الحال، حاولت التملّص من التقرير، ونفت صحة ما ورد فيه جملةً وتفصيلاً، على الرغم من إقرارها بارتكاب الأخطاء السياسية، فيما رفضت الاعتراف بأي سلطة أو شرعية للجنة التحقيق الرواندية.

غير أن الصحف الفرنسية، وتحديداً "لوموند"، عادت ونشرت مستندات تثبت تورط الرئيس الفرنسي السابق ميتران، حيث ذكرت أن الأخير كان يدعم هاباريمانا، لأنه رأى فيه حليفاً وثيقاً أمام تمدد النفوذ الأنغلوسكسوني في المنطقة، ولهذا تجاهل التحذيرات بارتكاب مجازر بحق التوتسي منذ عام 1990.

وتحركت العديد من الدول الأوروبية بعدها، من سويسرا الى بلجيكا وألمانيا والسويد، لملاحقة مرتكبي جرائم الإبادة الموجودين فوق أراضيها. لكن فرنسا لم تتحرك، وهي التي فرّ إليها العديد من قادة الإبادة، الى أن انعقدت أولى جلسات القضاء الفرنسي بهذا الشأن قبل يومين، حيث بدأت محكمة في باريس بالنظر في قضايا من يشتبه بارتكابهم المجازر، مستهلةً إياهم بالرئيس الأسبق للاستخبارات الرواندية، باسكال سيمبيكانغوا (54 عاماً).

سيمبيكانغوا متّهم بتسليح الجنود الهوتو وتحريضهم على ذبح التوتسي. وقد لجأ سيمبيكانغوا إلى فرنسا في 2008، حيث اختبأ في جزيرة مايوت. ويتوقع أن تستغرق محاكمته أسابيع، وفي حال أُدين، قد يواجه عقوبة بالسجن مدى الحياة. كما أن المحكمة ستستمع الى شهادات لنحو 50 شخصاً، بينهم صحافيون ومؤرخون وفلاحون وناجون وأمنيون ومسؤولو استخبارات.

ويرى المراقبون أن المحاكمة من شأنها أن تحسّن العلاقات المتوترة بين فرنسا ورواندا، وخصوصاً أن الدولة الاستعمارية السابقة لديها مصالح حيوية في القرن الأفريقي، ورواندا تُعتبر مركزاً حيوياً للحفاظ على استقرار المنطقة. لكن إن بُرّئ سيمبيكانغوا، فإن حدّة التوتر قد ترتفع.