أين المنظمة من مبادئها؟

24 يونيو 2018
الاجتماع الأخير للمجلس الوطني شكل ضربة للمنظمة (عصام ريماوي/الأناضول)
+ الخط -
نجحت الحركة الوطنية الفلسطينية في استيعاب النكبة بعد 16 عاماً واستدركت الأمر بإعلان قيام منظمة التحرير الفلسطينية وهي الاصطلاح أو التوصيف الذي كان عليه استيعاب كل المقتضيات والمطالب والتطلعات الفلسطينية، فالمنظمة كان منوطا بها أن تكون هي حركة التحرير من أجل تحرير فلسطين، وكانت هي الدولة الحلم بالنسبة للفلسطينيين وهي الكيان المعنوي لهم الذي يجتمعون تحت سقفه بعدما تهجر ثلثا الشعب الفلسطيني في الشتات، وكانت هي التعبير الأبرز عن استقلالية القرار الوطني الفلسطيني عن الوصاية العربية. كانت المنظمة كل شيء بالنسبة للفلسطينيين، هي التحرير وهي الدولة وهي الكيان وهي الشرعية وهي الممثل الشرعي والوحيد، وكان عليها القيام بكل المهام التي ينشدها شعب محتل.
لكن السؤال أين هي منظمة التحرير الفلسطينية من كل الرهانات والتطلعات بعد نصف قرن؟ وما الذي حدث حتى تلاشت المنظمة عن المشهد ومنه؟

متغيرات داخلية وخارجية
يتشعب عن السؤال السابق مجموعة تساؤلات أخرى مشروعة يُفضي إليها الواقع الحاصل الآن ومتغيراته الداخلية والخارجية، أحد أهم هذه التساؤلات بعد نصف قرن على قيام وتأسيس وإعلان ونشأة منظمة التحرير ماذا أنجزت من التحرير؟ بعد نصف قرن أين المنظمة ككيان معنوي؟ ككيان مؤسساتي؟ ككيان شرعي وككيان قانوني؟ أين المنظمة وهياكلها ومؤسساتها وجيشها؟ أين المنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني؟ وهل فلحت المنظمة بالفعل في أن تكون ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني؟ هل استوعبت المنظمة كل مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية؟ هل حافظت المنظمة على مبادئها وميثاقها؛ هل تماسكت المنظومة الفكرية للمنظمة التي تُعبر عن الثورة الفلسطينية وتعبر بها في وجه التحديات والمتغيرات؟ إذا لم تفلح المنظمة في تحقيق أهدافها هل حافظت على مسببات ودوافع نشأتها؟ إذا لم نفلح في بناء الدولة هل حافظنا على المنظمة كدولة معنوية احتوت الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات؟
تعكس التساؤلات السابقة واقع المشهد الفلسطيني عموماً وواقع منظمة التحرير الفلسطينية بوجه خاص وتجيب بعد نصف قرن عن هذا الواقع أكثر مما تفضي لتساؤلات جديدة قد تتعلق بمستقبل المنظمة ومآلاتها، إن الموضوعية تقتضي القول إنه لم يكن تلاشي المنظمة من المشهد الفلسطيني نتيجة للتسوية السياسية فقط وتحولها من منظمة تحرير إلى كيان خياره الأوحد والوحيد السلام والتسوية والقبول بفتات ما يلقى إليه الاحتلال الإسرائيلي، إذ إن جزءاً أساسياً ومركزياً من تآكل المنظمة وتلاشي حضورها كان صناعة ذاتية فلسطينية بامتياز وقصورا لدى كافة مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية التي جعلت من التنازع على المنظمة مدخلا لتغييبها، حتى عندما أدرك الفلسطينيون أن المنظمة تلاشت وتآكلت وأنها بحاجة لاستعادة لم يتفقوا على الآلية المناسبة لذلك وتطور الخلاف والاختلاف حتى بات الجدل هل هو إصلاح لمنظمة التحرير أم إعادة بنائها.

المجلس الوطني
تقرر مؤخرا إحياء أحد هياكل المنظمة وهو المجلس الوطني الفلسطيني، فكان الأمر أشبه باستدعاء ميت، مضى على دفنه أكثر من عقدين من عمر المنظمة وكان الاجتماع الأخير له في عام 1998 من أجل إحداث انقلاب في المنظومة الفكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، انقلاب أفضى لتلاشي آخر مظاهر ودلائل وجود منظمة تحرير فلسطينية وإلغاء ميثاق منظمة التحرير، وكأن منظمات التحرير وحركات التحرير تغير مبادئها وأهدافها، فكانت سابقة فلسطينية تحدث على وقع الاحتلال وما قبل التحرير والدولة وحق العودة.
المجلس الوطني الذي أريد باستدعائه كشاهد زور قطع الطريق على أي تقارب فلسطيني والاستقواء به من أجل مواجهة المجلس التشريعي لمرحلة ما بعد أبو مازن، هو في الأصل مجلس أريد به وله أن يكون مجلساً تمثيلياً لعموم الشعب الفلسطيني فإذا به يتحول لتكية وتصبح عضويته هبة ومنحة والمشاركة فيه حسب الولاء والتزكية والسلامة الأمنية.
بعد عقدين تقرر عقد اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني في بيئة فلسطينية متعثرة وفي ظروف هي الأصعب، وعلى بعد أيام من وقائع نقل السفارة الأميركية للقدس والاعتراف بالقدس عاصمة للدولة اليهودية، التأم المجلس الوطني ليعبر عن واحدة من أعقد مراحل التمزق والانقسام والافتراق الفلسطيني وكأن تغييب المنظمة لم يعد كافيا فأريد لها أن تكون عصا استقواء من أجل تعميد الانقسام ومأسسته أيضا، ولا سيما عندما رفضت ثلاثة من الفصائل الفلسطينية المشاركة والاشتراك في اجتماعات المجلس وهي حماس والجهاد والجبهة الشعبية.
وبدلا من أن يكون اجتماع المجلس الوطني، أحد أهم مكونات منظمة التحرير، مدخلا للوحدة والاتفاق والاصطفاف، لا سيما في ظل الظروف التي تمر بها القضية الفلسطينية، أصبح مدخلا للتراشق والاتهام والانقسام والتفكك، حتى بات الأمر أشبه بجبهة فصائل مشاركة مقابل جبهة فصائل رافضة المشاركة. وبدلا من إحياء المنظمة، أطلق الرصاص على واحد من أهم هياكلها، أي على مجلس تمثيل عموم الشعب الفلسطيني، المجلس الوطني. بعد سبعين عاما على نكبة فلسطين وبعد 54 عاما على تأسيس المنظمة لم يتفق الفرقاء في الحركة الوطنية الفلسطينية حتى بات الأمر كمن يضع العربة أمام الحصان ويريد استنهاض منظمة التحرير على مرأى من الاحتلال وكأن الاحتلال والتحرير يجتمعان معا.
إن الضابط لسلوك المنظمة وتجربتها وأدائها هو الإطار الفكري الذي وضعته المنظمة وأقرته، وهو الميثاق الوطني الفلسطيني الذي أقر في الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني بالقاهرة في 10 يوليو/تموز 1968 والذي حظي بالإجماع ودون أية معارضة، وبالتالي أصبح الميثاق هو الضابط لأداء المنظمة وهو البرنامج الاستراتيجي الشرعي لنضال الشعب الفلسطيني من أجل التحرير، تحرير فلسطين كل فلسطين وفق ما ذهب إليه الميثاق في حينه.
قبل تحقيق التحرير الكامل أو حتى الجزئي انقلبت المنظومة الفكرية لمنظمة التحرير، فذهبت إلى التسوية إلى أوسلو وقبلت بغزة أريحا أولا ثم تلاشت الثوابت والحقوق وأصبحت مجرد لاءات، وتلاشت هذه الأخرى وأصبحت اشتراطات فقط، واستكمل المشهد بانقلاب كامل في أروقة المنظمة بتغيير ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية وشطب 12 مادة من أصل 30 مادة وغُير جزئيا نص 16 مادة أخرى. وعلى الرغم من أن إقرار الميثاق حدث بإجماع فلسطيني ودون أية معارضة، فان تغيير الميثاق تم من خلال عملية تدليس وإرضاء للإدارة الأميركية وبحضور الرئيس الأميركي آنذاك بيل كلنتون في غزة عندما صوت ثلثا أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني على تغيير وتحريف وتبديل الميثاق الوطني الفلسطيني وبهذا انتفت وانتهت أول وأهم أسباب قيام منظمة التحرير الفلسطينية.
بعد نصف قرن لم تتخل المنظمة عن مبادئها فقط لكنها أصبحت مدخلاً للاختلاف وللانقسام الفلسطيني- الفلسطيني، تلاشت المنظمة وتلاشى معها المشروع الوطني الفلسطيني برمته، في وقت هو الأصعب والأخطر.