أيمن إغبارية: لن أصير مطراً

20 يوليو 2015
"الباب في مكان ما" لـ صادق فراجي/ العراق
+ الخط -

أي كلام يصلح كتعليقٍ على كتابٍ شعريّ؟ فالشّعر، بشكل أو بآخر، هو حدودٌ قصوى للمعنى واللغة بما تحمله من صورٍ ومجازات واستعارات. مستعيناً بكل هذه الأدوات، يسرد الشاعر الفلسطيني أيمن إغبارية (1968)، في مجموعته "ملاقط غسيل" تاريخه الشخصي من الولادة إلى الموت.

في القسم الأول من المجموعة، "غسيل الولادة"، ينقل لنا إغبارية تفاصيلَ من عالمه الأوّل، عالم طفولته، الذي تُشكّلُ ملامحَه الحارةُ التي عاش فيها، وما تحتويه من تفاصيل؛ العائلة، الشرفة، الجيران، إلخ..

أكثر ما يلفتنا في هذا العالم البسيط، هو العناصر المؤثثة له؛ النّمل والسكّر والنحل والعسل وقطع الحلوى والليل، وما إلى ذلك من مفرداتٍ، لو أمعنّا فيها، لوجدنا أنّها كافيةٌ لخلق طفولة ممتلئة ومُكتملة ومرئية: "عرفتُ أنّ أمّي تبكي من أصابعها/ وتخافُ الليل مثلي/ حين تمتلئُ القصيدة بالهدوء/ وحين يتأخّر إخوتي في الرجوع إلى أحلامهم".

في ثاني أقسام المجموعة، "غسيل العائلة"، يواصل صاحب مجموعة "تناثرتُ، وأحبّ ألا يجمعني أحد"، تتبُّعَ تلك التفاصيل، لكن هذه المرّة ليست عين الطفل التي تنظر إلى الأشياء، فأسئلته وهواجسه حول ما يحيط به قد كبُرَت، وتغيّرت طبيعة الملاحظات. إلى جانب هذا، فإن معظم القصائد ما زالت تحدثُ في البيت، حيث "لحوضِ الحمّام ميّزةٌ على القصيدة. فيه أستطيع أن أكلّم نفسي تحت الماء/ دون أن تقاطعني التوقّعات منّي/ أو كلمة لا سياق لها/ مثل (الغرق)".

ينظر إغبارية إلى العائلة بوصفها مشهداً متواصلاً لا ينقطع، يتابعه من بعيد، ويحدِّق في أفرادها الذين هو أحدهم، لكن من بعيد أيضاً، كأنّها عائلة أخرى، وفيها شخصٌ ما يشبهه:

"غريبٌ يولدُ في بيتي/ يلبسُ ثيابي/ ويسبقني إلى طعامي". النظر إلى العائلة بهذه الطريقة، لم يكن مُحايداً، بل على العكس، يتلمّس القارئ حميميّة عالية في المشاهد التي يقترحها الشاعر: "أمّي تلبسُ الوسائد شجراً وعصافيرَ و"صباح الخير"/ إلّا وجه وسادتها/ لونُه دائماً أبيض".

"ماذا كان في ذاكرة السماء/ غير الحنين/ قبل أن توقّفْنا عن الانحناء أمام النمل/ وبدأنا نصدّقُ الطائرات؟". مقطعٌ من القصيدة الأولى في القسم الثالث للمجموعة، "غسيل الأيّام". تنضجُ هنا أسئلة الشاعر أكثر فأكثر، يغادر الطفولة والعائلة، ويبدأ بالبحث عن ذاته في الموجودات، وفي وعيه ولاوعيه معاً. إغباريّة هنا يخرج من البيت، يذهب إلى مقعدٍ في الحديقة، يتأمّل الفصول التي أفرد لها قصيدةً. يتأمّل مكوّنات الطبيعة من أشجارٍ وحقول وغيوم ومطر.

هكذا، انتقلت صورة الذّات لدى إغبارية من تلك التي ربّاها البيتُ، إلى ذاتٍ جديدة، تستكشف صورَها في البريّة: "لن أصيرَ مطراً/ إلّا إذا سقطتُ من الأعالي/ وملأتُ أيّ شيء".

تتّخذ المجموعة إذاً منحى تصاعُديّاً، يتقصّى فيها إغبارية الأشياء التي شكّلت وعيه مُتأمّلاً إيّاها، إلى أن نصل إلى القسم الرابع من المجموعة، "غسيل المقهى". في هذا القسم، ينتقل الشاعر إلى مستوى آخر من الوعي؛ مستوى لا يكتفي بالاستكشاف وتلمُّس الأشياء والتعرّف إليها، وإنمّا يُعلن موقفاً وجوديّاً منها: "لو كان يجيدُ القراءةَ مثلما يجيد الكتابة/ لأخذ حذره من الأفاعي التي تملأ فنجانه المقلوب/ أو على الأقل لفهم أنّه خارج الخدمة".

ثمّ نقع على قسمين؛ "غسيل الحب" و"غسيل الموت". ثيمتان لهما وجهٌ واحد، فالحبُّ يشبه الموت بالنسبة إلى الشاعر، إذ يقول: "ستجدينني/ تماماً كما تركني الآخرون/ صينية خبزٍ يابسٍ/ ينهبه النمل/ ويسرقه الانتظار/ فخذي منّي ما ظلّ منّي/ وأعيديني إلى سنابلي/ كي أنامَ/ وأحلمَ بالنار".

المساهمون