ليست فقط الفاشيات الأوروبية من عمدت إلى تزييف تراثها الثقافي أو أدلجته، أو حتى طهّرته من مكوّناته "الخارجية"، كما فعلت النازية مثلاً مع إرث غوته ونيتشه وثلّة من كبار المثقفين اليهود، أو ما فعلته فاشية فرانكو مع الإرث الأندلسي ـ الإسلامي، هذا الإرث الذي لم يؤثر فقط في الثقافة واللغة وطريقة الحياة الإسبانية، بل في الثقافة الأوروبية عموماً، كما أوضح المتخصّصان في الدراسات العربية، الإسبانيان مونتافيز وبرافو ـ فيلازانتي في كتابهما الذي صدرت ترجمته الألمانية تحت عنوان: "أوروبا في ظلّ الهلال" (1991)، بل إن عمليات الأدلجة والتزييف حاضرة في الديمقراطيات الغربية نفسها، ولأسباب مختلفة، نفسية وسياسية واقتصادية ودينية.
لكن في ظل هذه الديمقراطيات الغربية أيضاً نقف على مساهمات أخرى، تتناول عمليات الأدلجة والاختزال هذه بالنقد والتفكيك، وقد يتم ذلك بأشكال مختلفة، كما يفعل اليوم المتحف البرليني "مارتين غروبيوس باو" من خلال معرضه: "اليهود ـ المسيحيون والمسلمون"، إذ يرى المؤرخ الألماني غوستاف زايبت في مقالة نشرها مؤخراً حول المعرض في صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ"، بأن الحديث عن "الجذور اليهودية ـ المسيحية" للغرب، وخصوصاً إذا ما تعلق الأمر بمسألة التفريق بين أوروبا والإسلام أمرٌ لا يخلو من نفاق، لأنه يقدّم الانطباع كما لو أن التعايش بين اليهود والمسيحيين، ظلّ ومنذ ألفي سنة تعايشاً أخوياً فقط.
كما أنه يخفي واقع أن اليهود بمختلف أطيافهم تمتّعوا بحريّة أكبر، ولقرون عديدة في الامبراطوريات العربية والعثمانية، مما كان عليه الأمر في "المسيحية" السابقة على الحداثة. ويحاول تفنيد هذه الجينالوجيا المُصطنعة أو المسيّسة للهوية الثقافية الغربية، عبر تتبّع تاريخ العلم المعقّد بين الشرق والغرب، والغرب والشرق، من خلال ما يقدّمه المعرض البرليني، ويكتب قائلاً: "إنّ انتقال العلوم سيتحقق وفقاً لحركة جبّارة في المكان والزمان، تنطلق من بلاد الرافدين مروراً بشمال أفريقيا وإسبانيا إلى قلب أوروبا، على طريق استدعى عبوره أربعمائة عام، وخلال تلك الرحلة ستغيّر تلك النصوص لغاتها أربع مرّات وفي أقل تقدير ثلاث مرّات.
هذه التحولات الكبرى لم تمسّ فقط العلوم الطبية. فالطريق نفسها ستسلكها الفلسفة القديمة وعلم الفلك والرياضيات، وطبعاً الإضافات العربية التي أدخلت على هذه العلوم، ستنتقل من الشرق والجنوب إلى الغرب، من خلال صيرورات نقل وشرح للمضامين، ستشارك فيها أجيال من المتعلّمين.
وهكذا أثّرت أعمال فلاسفة كبار، مثل ابن سينا وابن رشد، بعد ترجمتها إلى اللغة اللاتينية، المعارف الغربية. بل إن الفيلسوف الأندلسي ابن رشد سيجد طريقه إلى "الكوميديا الإلهية" لدانتي، والذي سيحمل فيها اسم "الشارح الأكبر"، وبلغة أخرى لقد أنجز أعمالاً حول أرسطو الذي كانت تعتبره القرون الوسطى أكبر فيلسوف عرفته الإنسانية. ولم تشارك في عمليات الاستقبال هذه لغات متعدّدة فقط، ولكن أيضاً أشكال الكتابة الأربعة، اليوروـشرقية: اليونانية، واللاتينية، والعبرية، والعربية".
ومع ذلك يبقى السؤال مطروحاً: لماذا تسييس التراث هذا في ظل أنظمة ديمقراطية؟ أو لربما وحتى نكون أكثر دقّة، ما هو الدور الذي يلعبه التراث الثقافي في كل سياسة؟ وخصوصاً في السياسة الديمقراطية؟ فإذا كانت الديمقراطية تُخرجنا من منطق الانتماء، وإذا كانت تتأسّس على العلمانية، وتقوم على "تضامن مُواطَنِي بين غرباء" كما يسميها هابرماس، فإن ذلك يتضمّن بالضرورة واقع أن التراث الثقافي لا يتوجّب إقحامه في اللعبة السياسية الديمقراطية، كما يتضمّن واقع أن الأمر يتعلّق بتراثات مختلفة ومتعدّدة، وأن الديمقراطية جاءت لتحافظ على تعايش سلمي وثقافي بينها، لا لتفرض تراثاً على آخر.
إن تحيين الماضي، ثقافياً أو سياسياً أو دينياً، هو جزء لا يتجزأ من السياسة، وقد لا تكمن الخطورة في فعل التحيين ذلك، فالشعوب تعيش بماضيها أيضاً، ولكن الخطورة تكمن في الأسباب التي تقف كل مرّة خلف ذلك، ومنها تلك الأسباب التي تدفع الديمقراطيات الغربية اليوم للحديث عن هوية يهودية ـ مسيحية لأوروبا، متناسية بأن هذا الإسلام نفسه الذي تَطلُب إقصاءه من هويتها وعبر ذلك من الواقع، هو لربما أحق منها بالحديث عن ذلك الإرث اليهودي ـ المسيحي. لكن هل يجرؤ المسلمون على ذلك؟!