أنا يوسف يا أبي

19 يونيو 2015
لا ذاكرة لي حول ما حدث (فرانس برس)
+ الخط -
هي طفولة أبدية إذن، أتساءل بعد رحيلي: هل كان "قدراً" يا أبي أن يطول حلمي ويمتد وسع الفضاء، شرط أن أرحل على صورة تحرمك الحلم أو ربما النوم طويلاً طويلاً. لا ذاكرة لي حول ما حدث قبل أن أتدلى، قبل أن تلتصق بقايا قلبي الصغير بحديد البرميل من جهة، وإسمنت أرض منزلنا من جهة أخرى، قبل أن ألوح بيدي مودعاً هذا الكون الموحش إلى عدم أعجز اللحظة عن توصيفه.

حين سقط البرميل فوقي فكّرت أن أدفن رأسي، ألا تكون صورة المدى المغبرّ آخر ما أراه، قلت أدفنه، لحظات وأطير، استعدت هدهدات أمي في كل مرة مات فيها أحد أطفال حيِّنا وهدّأت هلعي بتهويمات عن أنهار وعصافير، عن جناحين كبيرين ينبتان للصغار بعد الموت، لم ينبت لي جناحان، والملائكة التي تحمي الأطفال هربت قبل أن تخامرني قطع المعدن ويأكل الحريق بعضي.


لا تحزن إن قلت لك إنني لا أبصر، أحاول أن أرى شيئاً، أي شيء، محض فراغ يا أبي!
حين استيقظت على أحشائي مقطعة، قلت لا بأس، ذاهب أنا إلى مكان واسع، قد أتعلم مفردات تلائم طفولتي، أسمع أصواتاً مختلفة، وأستمتع بتمييزها، دون أن أتفاخر على رفاقي بسرعة تسمية المصدر: غراد، سوخوي..

هنا يمكنني أن أخلع وجهاً لا يشبهني، أن أرمي لعبة على شكل بندقية وأستبدلها بشاحنة صغيرة، أو ربما بعلبة من البلي "الدحل"، أكثر ما يمكن أن يقتنيه صبي في ريفنا الفقير.

أنا يوسف يا أبي، غفل الذئب عني فنهشني الحديد، أنا يوسف يا أبي، حُسْنٌ غار في تراب حلب، سيضع بعض الناشطين صورتي على صفحاتهم، فتفلقها الإدارة لأنها تؤذي المشاعر، سيطلقون اسمي يوماً على إحدى المدارس، وسأفرح كلما فكرت أن الأطفال دخلوها، كما لم أفعل أنا ومئات الآلاف من أطفال سورية غيري، وأن جدرانها ستتسع للألوان والرسوم، ولإشعال الثورات ضد الحكام.

أسمع صراخك جيداً يا أبي، أسمع نحيبك، أحاول جاهداً أن أرد بكلمة، أحاول أن أرفع يدي وأتلمس موضع غرق الكلمات في حلقي، فأتذكر أنني ميت، ويتبادر إلى ذهني أن العالم الذي تصرخ فيه ليس أصم، لكن برميلاً شارداً سقط على ضميره فتشظى كمثلي اليوم.

يؤلمني أنني كنت فاتحة نمطا جديدا من الموت يا أبي، وأن الموت الذي أسكت نبضي وعلقني، لن يكف عن الابتداع في استلال أنفاسنا، يعلقني هنا في الهواء، ويمدد آخرين وسط البحر، يطبق وجوداً على آخرين ويردم آثارهم.

تطول القوائم بأسمائنا يا أبي، وفي كل يوم، منذ سقوط حمزة وثامر وصولاً إليّ أنا يوسف، يُبعث على أرض سورية ألف يعقوب، ينتحب حتى ما قبل العدم بقليل، وينتظر قميصاً لن يصل، أو موكباً للبراميل أو مراكب الموت، يحمله إلى حيث بعض روحه.


(سورية)
المساهمون