أنا ومحفوظ في ذكراه

24 ديسمبر 2014
يجعلك تسير بخيالك في شوارع القاهرة وحواريها (Getty)
+ الخط -

في مثل هذا الشهر من سنة 1911، ولد نجيب محفوظ في حي الجمالية في القاهرة، ونشأ وسط أجواء خان الخليلي الشعبية. لم يكن ابن عائلة من رواد الثقافة، أو من علامات المجتمع الراقي آنذاك. هذا الجانب من أكثر ما يشد في سيرة الأديب الحائز على نوبل للآداب سنة 1988. موظف حكومي ابن موظف حكومي، لكنه نجح في نحت اسمه في تاريخ الأدب العالمي.

عرفت نجيب محفوظ في طفولتي في كيس من الخيش القديم، يخبئه أبي تحت سرير غرفة النوم. كيس عجيب بالنسبة لي، مليء بالكتب باللغتين العربية والفرنسية، تفوح منه رائحة الورق العتيق المغرية لأنفي الصغير. كانت تشدني صورة غلاف روايته "بين القصرين"، امرأة جميلة بثوبها المصري، مفتوح العنق وملايتها السوداء وخصلة شعرها المطلة من تحت "الترتر" الذي يزين غطاء رأسها. تبدو واثقة ومتسلطة، بطلتي، أنا التي اعتدت على الأبطال في حكايات جدتي. عرفت فيما بعد أنها "مريم" بنت جيران عائلة السيد أحمد عبد الجواد في شارع بين القصرين.

كبرت وازداد شغفي بالكتب وبمحفوظ ورواياته، ربما إيماناً بقوله "الكتب تهيء للإنسان الحياة التي يهواها". فالعالم الذي يرسمه في أعماله سحري بتفاصيله، وشبه ملموس لدقته في التصوير. قراءة روايات محفوظ، الواقعية منها خاصة، تجعلك تسير بخيالك في شوارع القاهرة وحواريها منذ بداية القرن العشرين. تمر بالباعة والصنايعية وتصادف الحناطير وتسمع الأغاني في الأعراس والموالد. تقابل الشحاذين والفقراء والثائرين والكادحات والغواني والعوالم. إنه أدب من النوع الفاتح للشهية والمحفز على القراءة. يمكن اعتباره وصفة للترغيب في الكتب. من رواية لمجموعة قصصية لمسرحية، نشأ بيني وبين محفوظ رابط مميز وبت أعتبره كاتبي المفضل ولا أزال.

انقطعت عن محفوظ فترة ثم عدت إليه باحثة وقت إنجازي أطروحة ماجستير، وهي تجربة مختلفة عن تجربة القارئ. كنت زمعت دراسة الخطاب النسائي في أدبه، وفي ذهني مقتطف من خان الخليلي "إنهن أجساد بلا روح، إنهن مصدر آلام الإنسان وويلات البشرية". في الحقيقة لطالما اتهم محفوظ بأنه يرسم صورة بشعة للمرأة، إذ يختار نماذج شخصيات تسيء في نظر ناقديه لحقيقة المرأة المصرية والعربية عموماً. ومن أبرز ناقداته النسويات، نوال السعداوي، التي ترى أنه حصر المرأة بين ضدين: العاهرة والقديسة. لكن المتمعن في نساء محفوظ منذ القاهرة الجديدة (1945) حتى قشتمر(1988) سيلاحظ أنه قد عرض تقريباً كلّ صنوف النساء مواكباً تطوّر مكانة المرأة في المجتمع داعماً وناقداً. نجيب محفوظ كان جريئاً إذ عرّى المجتمع وواجهه بحقيقة الظلم المسلط على النساء. لم يفسح أحد المجال لنساء الطبقة الكادحة ليكنّ بطلات، كما فعل.

لا يزال نجيب محفوظ حاضراً رغم غيابه. فمع النضج والمداومة على القراءة والانغماس في البحث والتعلق بالكتابة أصبح أكثر من أديب متفرد يشد أسلوبه القارئ ويهتم بأفكاره وطروحاته الباحث. لأن الأدب حياته وحرفته الأثيرة، كان لمحفوظ طقوسه الخاصة للكتابة. فهو يقسم المكان والزمان ليمارس فنه. "البيت للقراءة والكتابة والتأمل والمقهى للأصدقاء والحديقة لحب الطبيعة" هكذا يقول. بعد قيلولة إثر عودته من العمل يخصص ثلاث ساعات للكتابة ومثلها للقراءة. ثم بعد تقاعده من الوظيفة أصبح يكتب صباحاً. وحين أصيب بحساسية خصص الربيع والصيف للراحة والتأمل. أما عن الجو المحيط فهو يبدأ بصوت أم كلثوم كمقدمة. بمرافقة القهوة السوداء المرة والسجائر، وأقدامه حافية هكذا يكتب. لم يكن يكتب حسب المزاج ولم يكن غريب الأطوار مثلما يُتوقع، لكنه يعلمنا أن للكتابة قداسة وأن الإبداع عطاء والتزام.


*تونس

المساهمون