أميركا: شعبوي وليبرالي وبينهما كورونا

23 مايو 2020

ترامب يسارا في 2/6/2019 وبايدن يمينا في 18/5/2019(Getty)

+ الخط -
سوف تكون الانتخابات الرئاسية الأميركية، إذا جرت في موعدها المقرّر خلال نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، إحدى أكثر المناسبات السياسية جذباً للاهتمام، ليس فقط لأنها ستحدد من سيقود الدولة العظمى في السنوات الأربع المقبلة، بل لأنها سوف تجري في أجواء كارثةٍ متعدّدة الأبعاد وغير مسبوقة، فعدد الضحايا خلال ثلاثة أشهر يفوق عدد قتلى حرب فيتنام التي استغرقت عشرين عاماً، وما زال عدد الضحايا يتضخم كل يوم، وليس من إشارات تعاطفٍ تُذكر مع الضحايا وذويهم لدى الرئيس دونالد ترامب، فهو منشغل في حربه على منافسيه الديمقراطيين وعلى الصين وعلى منظمة الصحة العالمية، وعلى ترويج دوائه المفضل "هيدروكسي كلوروكين" المعالج للملاريا، على الرغم أن نتيجة فحوصاته من الإصابة بمرض الفيروس التاجي كانت سلبية! والواضح أن الرجل يريد أن يسلب الأضواء من رئيس المعهد الوطني لأمراض الحساسية والأمراض المُعدية، أنطوني فاوتشي، ويتدخل في اختصاصه، والأخير خضع للعزل، وعدد من أركان البيت الأبيض، للاشتباه بإصابته بالوباء، كما انتقل ترامب، خلال أسابيع، في تقديراته لعدد المهددين بالوفاة من الأميركيين من 60 ألفا إلى مئة ألف ضحية. وبما أن عداد الأرقام يقترب، هذه الأيام، من هذا الرقم، فمن المقدّر أن يرفع ترامب قريباً العدد المتوقع للضحايا، وهو المولع بالأرقام. وإلى الضحايا، فإن ملايين الوظائف وآلاف الشركات المتوسطة والصغيرة في طريقها إلى الاندثار. وبما أن الفترة المتبقية على الانتخابات هي تقريبا ضعف الفترة التي مضت على تفشّي الوباء، فللمرء أن يتخيل حجم الكوارث، علماً أن فترة الأشهر الثلاثة الماضية بدأت من صفر إصابة، بينما الفترة التي تفصلنا عن الانتخابات تبدأ بأزيد من مليون ونصف مليون إصابة بالوباء سريع العدوى. 
ويبدو المرشح الديمقراطي المنافس، جو بايدن، أفضل حالاً في التعاطي مع الكارثة، ويعزف عن التقليل من أهميتها المصيرية، وكونها تخيمّ على اهتمامات ملايين الأميركيين وحياتهم اليومية، ولما لها من انعكاسٍ حاسم وبعيد المدى على أرزاقهم ومستقبل عائلاتهم. ويعتبر أداء إدارة 
ترامب في التعامل مع الوباء من القضايا المحورية في حملة بايدن (لم يتم ترشيحه رسميا عن الحزب الديمقراطي، لكنه لا يجد منافسين جدّيين له في ترشيحات الحزب بعد انسحاب بيرني ساندرز). ومن الطرائف أن ابناً لترامب، هو إريك، ويعمل نائبا للرئيس التنفيذي لمنظمة ترامب (تكتل تجاري استثماري لترامب وأبنائه)، اعتبر أن وباء كورونا سوف يختفي في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل (موعد الانتخابات الرئاسية)، ولن يجد الديمقراطيون بعدها ما يتحدّثون به. والقصد أن الحزب المنافس يضخّم خطر الوباء، وينشغل أكثر من اللازم به، من أجل تسجيل نقاط انتخابية ضد ترامب الذي يشجّع رفع الإغلاقات في أقرب الآجال، وبينهم حكام الولايات الذين يتهمهم الرئيس بالمبالغة والتشدّد، فيما يمزج الديمقراطيون بين تحسّن الوضع الوبائي والرفع التدريجي للإغلاقات، وعلى نحوٍ لا يتم فيه الفصل بين المسألتين.
وإذ تؤشر آخر الاستطلاعات إلى تقدّم حظوظ بايدن على ترامب، إلا أن التقلبات، حتى موعد الانتخابات، هي التي ستقرّر خيارات الناخبين. وعلى رأي المستشار الجمهوري، وليد فارس، فإن استطلاعات سبتمبر/ أيلول أو أكتوبر/ تشرين الأول هي الأكثر أهمية. وهو أمر صحيح، لكن التوجهات لا تتبلور دفعة واحدة، إذ تبدأ في مثل هذا الوقت، وتكتسي مزيدا من الأهمية، مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي. علماً أن حظوظ ترامب ما زالت كبيرة، خلافا لما كانت عليه قبل سنتين، وهو يندفع في مسلسل التخبّط في الإقالات والاستقالات لشاغلي الوظائف العليا في إدارته، فقد أشاع الرجل تقاليد الثقافة الشعبوية في التعليقات المباشرة والفجّة، وفي شخصنة الخلافات السياسية والإدارية، وفي التحلل من الوقار الذي يسم عادة ساكن البيت الأبيض، وفي هجاء المهاجرين والأغراب والأعراق "الأقل مستوى". وخلا ذلك، لم يتدهور الاقتصاد في عهده، وشنّ حملات على الصين والاتحاد الأوروبي، وحتى على حلف شمال الأطلسي (الناتو). وهو ما يرضي المزاج الناقم لشرائح اجتماعية واسعة غير مسيسة، سواء لدى بعض أصحاب الياقات الزرقاء أم من الطبقة العاملة.
ليس بايدن من قماشة المرشح "اليساري" المنسحب ساندرز، والذي يولي المسألة الاجتماعية اهتماما فائقا، وينزع إلى رؤية أميركا "تقدّمية" تناصر الشعوب هنا وهناك، غير أن المرشح الديمقراطي المرجح (76 عاما)، ونائب الرئيس السابق باراك أوباما، ذو منزع ليبرالي في مربّع اليمين، ويؤمن بدور قيادي أميركي في العالم، ويولي قضية إرساء الديمقراطية اعتبارا كبيرا. ويتردّد بقوة أنه سيعين سيدة في منصب نائب الرئيس. ولا يقل عداء للصين عن ترامب، بل يرى أن الأخير تهاون معها، فيما يتخذ موقفا نقديا حادّا من روسيا خلافا لترامب، ويرى أن موسكو لعبت في الخفاء دورا في تصعيد ترامب إلى سدة الرئاسة، وهو أقل نفورا من الاتحاد الأوروبي، وأكثر التزاما بحلف الناتو وديمومته.
ويسترعي الانتباه أن ترامب نجح في تكييف العالم معه، وفي تخفيض ما هو منتظر من المراكز 
القيادية، فعلى الرغم من الموقف الشائن لترامب من قضية الشرق الأوسط، إذ أخذ يزايد على اليمين المتطرّف الإسرائيلي، في إنكار الحقوق الفلسطينية، كما تبدى في صفقته التي أسماها "صفقة القرن"، إلا أنه نجح في اللعب على وتر الخوف الإقليمي من الأطماع الإيرانية، وهو خوفٌ حقيقي، كما أن الأطماع جدّية، وتتحدّث عن نفسها بنفسها. وقد قايض، كما يبدو، بنصائح من فريقه الليكودي ازدراء الحقوق العربية في الأراضي المحتلة عام 1967 بالوقوف في وجه إيران. وبالذات مع خروج إدارته من الاتفاق النووي الإيراني الغربي، فيما يعلن بايدن التزامه بهذا الاتفاق، من غير أن يوجه نقداً كافياً للسلوك الإيراني. ويتخذ المرشح الديمقراطي موقفاً أفضل من ترامب بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، معلنا التزامه بحل الدولتين، وعدم إغلاق الطريق أمام إقامة دولة فلسطينية، ورفض القرارات الأحادية. هذا في وقت كفّ فيه ترامب عن تناول هذه القضية، مانحاً أركان إدارته من الليكوديين (جاريد كوشنر ومايك بنس ومايك بومبيو) صلاحية التنسيق مع حكومة الاحتلال لتطبيق الصفقة على الأرض في الوقت المناسب. ولعل هذا الموعد لن يكون حُكماً أبعد من نهاية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، فالعالم مُفعم بالوباء ومخاوفه وانشغالاته، وهو ظرف ذهبي من أجل فتح صفحة جديدة في كتاب الصهيونية المعاصرة (كما يتشدّق بنيامين نتنياهو)، وبطبعتها الجذرية الصافية الأشد لصوصية وعنصرية.